يعد موضوع الديمقراطية الاجتماعية من القضايا المطروحة بحدة على ساحة النقاش في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية وما تثيره من جدل حول الأساليب الكفيلة بحماية المجتمع من تشوهات الرأسمالية وتجاوزات القطاع المالي الذي راهن بأموال الناس وتسبب في الانهيار. لكن النقاش حول الديمقراطية الاجتماعية يكتسي أهمية خاصة في البلدان المعروفة بتقاليدها الاجتماعية الراسخة، وبالضمانات التي يكفلها القانون لقطبي العلاقة الاجتماعية متمثلين في الشركات من جهة والمجتمع من جهة أخرى، بالإضافة إلى السلطات العمومية التي تقف على الحياد وتلعب دور التحكيم بين أطراف المعادلة الاجتماعية ضمن ديمقراطية ليبرالية تحكمها ضوابط خاصة. هذا البعد المهم يفصله الكاتب والناشط الفرنسي، هنري روليو، في كتابه الذي نعرضه هنا وعنوانه "إلى أين تذهب الديمقراطية الاجتماعية؟"، محاولا استلهام تجربته الخاصة كمدير سابق لـ"الوكالة الوطنية لتحسين ظروف العمل" لتوضيح مفهوم الديمقراطية الاجتماعية والحاجة إلى تعزيزها في وقت يمر خلاله العالم بمخاض اقتصادي عسير ينعكس على شرائح واسعة من المجتمع، لاسيما في مجالي التشغيل والحفاظ على حقوق العمال. وبالطبع لن تستمر الديمقراطية الاجتماعية بدون مواصلة الحوار الذي يركز عليه الكاتب، فليس من اختصاص الحكومة، كما يقول المؤلف، وضع القوانين، بل جمع الأطراف المختلفة على طاولة الحوار الاجتماعي وتسهيل التوصل إلى تشريعات وتفاهمات تحمي الطبقة العاملة من ناحية وتضمن النمو الاقتصادي من ناحية أخرى، بالنظر إلى الدور الكبير لأرباب العمل في تحفيز النمو. إن مظاهر التعافي الاقتصادي التي بدأت تظهر في الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية، والحالة الفرنسية المتميزة التي استطاعت الخروج رسميا من مستنقع الركود... مؤشرات إيجابية لا يمكن أن تخفي الأيام الصعبة القادمة التي تنتظر الغرب والعالم، وبخاصة مع استمرار البطالة لفترة قادمة وربما توسع رقعة التسريحات العمالية، وهو ما سيكون اختباراً لقدرة الديمقراطيات الاجتماعية، وفرنسا في مقدمتها، على تأمين التوازن المطلوب بين أقطاب المعادلة الاجتماعية والدفاع عن مبادئ العدل والمساواة المؤسسة للجمهورية الفرنسية. فرغم القوانين القائمة حالياً في فرنسا، مثل قانون 31 يناير لعام 2007 الذي يفرض على المشرعين أو أرباب العمل التفاوض مع العمال وممثلي النقابات قبل أي إصلاح لقانون العمل حتى لا تخل التعديلات بالتوازن الاجتماعي. وقانون 20 أغسطس من عام 2008 الذي يشدد على حضور ممثلي النقابات في أي حوار اجتماعي... رغم كل ذلك يحذر الكاتب من بعض الأصوات "الغريبة عن التربة الفرنسية"، والتي تهدد بتقويض التماسك الاجتماعي والمس بالديمقراطية الاجتماعية. فإذا كانت بعض الدول ضمن المنظومة الغربية، وخاصة الدول الأنجلوسكسونية اختطت لنفسها طريقاً مغايراً يركز على الديمقراطية السياسية المرتبطة عضوياً بالليبرالية الاقتصادية، يرى الكاتب أن صمام الأمان الوحيد أمام العالم اليوم هو النموذج الاجتماعي لأنه يقي المجتمع من الاختلالات الاقتصادية ويتعامل مع الفرد ليس ككائن اقتصادي فقط، بل كإنسان له احتياجات اجتماعية ورغبة في تمكينه للتحاور من أرضية صلبة مع أصحاب المصالح وأرباب العمل. ويقصد الكاتب بالديمقراطية الاجتماعية جميع أشكال التفاوض بين شرائح المجتمع، بالإضافة إلى أساليب التشاور وتبادل المعلومات على جميع الصعد بين المشغلين وممثلي العمال والسلطات العمومية حول قضايا المصلحة المشتركة. ويتوزع هذا الحوار الضروري في الديمقراطية الاجتماعية بين الشركة والمجتمع، ففي الشركة يتم التركيز على علاقات الفرد في العمل وعلى العقد الموقع بين المشغل والأجير، أما على صعيد المجتمع فالمسؤولية الاجتماعية تتقاسمها العديد من الهيئات كالنقابات العمالية والمهنية، بالإضافة إلى تجمعات أصحاب الصناعات. ويحذر الكاتب من أن الأزمة الاقتصادية الحالية باختلالاتها المالية والاستحقاقات المستقبلية التي تفرضها دولة الرفاه في فرنسا، مثل التأمين الصحي ومعاشات التقاعد، تحتم الدخول في حوار اجتماعي عاجل يتم فيه تحديد طرق تأمين الموارد الضرورية، وربما إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد إما لجهة تحمل المجتمع أعباء إضافية لمواجهة المسؤوليات، أو التركيز على دور الشركات في تحمل جزء منها. وفي جميع الأحوال يشدد الكاتب على الدور المحوري للديمقراطية الاجتماعية في تسهيل التفاعل بين شرائح المجتمع دون الوصول إلى مواجهات تتسببها الإضرابات التي تشل الحركة وتضر بالاقتصاد، رغم ما تنطوي عليه من شرعية يكفلها القانون والدستور. وفي هذا الإطار يتطرق الكاتب إلى الانتظارات الكبرى في فرنسا، مثل الإصلاحات الكبيرة التي يتعين إقرارها في عام 2010 لمواجهة شبح البطالة وضمان استمرار الضمان الاجتماعي، فضلا عن الانتخابات الرئاسية التي ستشهدها البلاد في عام 2012 بينما يستمر العجز المالي الذي عمقته الأزمة الاقتصادية الحالية، حيث سيكون على الأغلبية الحاكمة في فرنسا بقيادة ساركوزي، التخلي عن برنامجها الداعي إلى خفض الضرائب، فيما سيتعين على المعارضة التي تعطي الأولية للتضامن الاجتماعي، إبراز تفهم أكبر لندرة الموارد وإقناع الشرائح الفرنسية العريضة بالحاجة إلى التقشف وتحمل المسؤولية. وبالطبع لن يتم ذلك، حسب المؤلف، إلا في سياق الديمقراطية الاجتماعية التي ينادي بتعزيزها. زهير الكساب الكتاب: إلى أين تذهب الديمقراطية الاجتماعية؟ المؤلف: هنري روليو الناشر: أتوليي تاريخ النشر: 2010