أبرزنا في المقالات الأخيرة عنصرين أساسيين من العناصر التي تحددت بهما رؤية ابن خلدون للواقع السياسي العربي في عهده والعهود السابقة له والتالية وربما إلى عصرنا الراهن! هذان العنصران هما: فكرة تعاقب النظم السياسية كما هي عند اليونان، ومن المستبعد جداً أن يكون قد أطلع عليها في كتب أفلاطون وأرسطو لأنه هو نفسه يذكر مصدره وهو شرح ابن رشد لكتاب الخطابة لأرسطو، واعتبار "الحسب" أحد الدعائم التي تقوم عليها الدول. لقد رد صاحب المقدمة على فيلسوف قرطبة منوهاً بدور العصبية كعامل أساسي إن لم يكن الوحيد في قيام الدول وسقوطها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تجربته السياسية، أعني تعرفه المباشر على الطريقة التي تنشأ بها الدول وتسقط، وذلك من خلال الوضع الذي عرفه المغرب العربي بل والعالم العربي جملة في زمانه. هناك عنصر ثالث لا بد من إبرازه وهو المخزون الثقافي العام الذي اكتسبه سواء خلال دراسته شبه النظامية في تونس وميله إلى العلوم العقلية بتأثير أستاذه وصديق والده، "شيخ العلوم العقلية" في عصره، أبي عبدالله عمر بن إبراهيم الآبلي... هذه العناصر مجتمعة هي التي تقف وراء عنصر الإبداع في فكر ابن خلدون. يتجلى ذلك من تتبع بنية كتابه "المقدمة". إنه ينطلق لا من السياسة بل مما كان يؤسس السياسة عمرانياً في نظره. ذلك أن الاجتماع البشري الذي يجعل الإنسان "حيوانا سياسيا" هو العمران. والعمران، من العمارة والتعمير، وهو "التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم (الناس) من التعاون على المعاش". غير أن هذا العمران ليس على درجة واحدة، من حيث القلة والكثرة، والتخلخل والكثافة في جميع مناطق الأرض! فما السبب في ذلك؟ وما هي عوامل اختلاف أحوال العمران جملة، وبالخصوص منها ما يرجع إلى اختلاف نمط الحياة وأسلوب العيش... تلك هي المسائل التي يبدأ بها ابن خلدون أبحاثه في العمران البشري. ورغم أن آراءه هنا مستقاة جملة وتفصيلاً من المعارف العلمية السائدة في عصره، والعصور قبله، ورغم أن كثيراً منها أصبح اليوم أقل أهمية، فإن الانطلاق منها ضروري -في ما نرى- لفهم ما يليها من النظريات الخاصة بالشؤون السياسية والاجتماعية عامة. نعم إن بعض ملاحظات ابن خلدون هنا تحمل طابع الجدة، أو التركيب المبدع، ولكن، حتى لا ننحرف بها عن المدلول الحقيقي الذي أعطاه لها صاحب المقدمة يجب أن نضعها في إطارها الأصلي الذي وضعها فيه، وفكر فيها ضمن نطاقه. يبدأ ابن خلدون أبحاثه هنا بنظرة إجمالية إلى ما يمكن أن نطلق عليه "جغرافية العمران": هو ينظر إلى القسم المعمور من الأرض واختلاف أجزائه من حيث وفرة العمران وقلته. كان الجغرافيون القدماء يقسمون الأرض إلى سبعة أقاليم تتدرج من خط الاستواء إلى القطب الشمالي، ومع أنه يفصل القول في هذه الأقاليم من الناحية الجغرافية، فإن ما كان يهمه هو بيان: أولاً، أن العمران يختلف من إقليم لآخر من حيث القلة والكثرة والازدهار والضعف. ثانياً، بيان العوامل التي أدت إلى هذا الاختلاف، وهي العوامل نفسها التي سيجعل منها، مع قليل من التعديل، أساساً لاختلاف أحوال العمران في الإقليم الواحد، بل في المنطقة الواحدة. يقول: "نحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة، أن الأول والثاني من الأقاليم المعمورة (منطقة خط الاستواء) أقل عمراناً مما بعدها. وما وجد من عمرانه فيتخلله الخلاء والقفار والرمال والبحر الهندي الذي في الشرق منهما. وأمم هذين الإقليمين وأناسيها ليست لهم الكثرة البالغة، وأمصاره ومدنه كذلك، والثالث والرابع (المنطقة المعتدلة) وما بعدهما بخلاف ذلك. فالقفار فيها قليلة، والرمال كذلك أو معدومة. وأممها وأناسيها تجوز الحد من الكثرة، وأمصارها ومدنها تجوز الحد عدداً، والعمران فيها متدرج بين الإقليمين الثالث والسادس. والجنوب خلاء كله". ويعلل ابن خلدون هذا الاختلاف على أساس المعلومات التي توصلت إليها العلوم الطبيعية في عصره والمستمدة من طبيعيات أرسطو وعلوم الأوائل جملة. وأكمل هذه الأقاليم عمراناً هو الإقليم الرابع (الذي منه حوض البحر الأبيض المتوسط وامتداداته شرقاً إلى إيران الخ). ولهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات، وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال. وسكانها من البشر أعدل أجساماً وألواناً وأخلاقاً وأدياناً، حتى النبوءات فإنما توجد في الأكثر فيها(...) وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم، فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم: يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين. وتوجد لديهم المعادن الطبيعية(...) ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين(...) وأما الأقاليم البعيدة عن الاعتدال مثل الأول والثاني، والسادس والسابع، فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم: فبناؤهم من الطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر يخفضونها عليهم أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس، وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التكوين مائلة إلى الانحراف. ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين (الذهب والفضة)، من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم. والسبب في ذلك أنهم لبعدهم من الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم، ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك، وكذلك أحوالهم في الديانة أيضا، فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة". ليس هذا فحسب، بل إن اختلاف هذه الأقاليم من حيث درجة الاعتدال ينعكس على طباع سكانها مثلما ينعكس على حياتهم الاجتماعية. ذلك لأنه لما كانت "طبيعة الفرح والسرور، هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه وطبيعة الحزن بالعكس، وهو انقباضه وتكاثفه...". ولما كانت الحرارة مفشية للهواء والبخار، مخلخلة له، زائدة في كميته بخلاف البرودة، ثم إنه لما كانت الروح أشبه بالهواء أو البخار، وألطف منهما، فإن النتيجة هي أن سكان الأقاليم الحارة "تكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع، أشد حراً، فتكون أكثر تفشياً، فتكون أسرع فرحاً وسروراً، وأكثر انبساطاً، ويجيء الطيش على أثر هذه. وكذلك يلحق بهم قليلاً أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة". أما سكان الأقاليم الباردة، فإن طبيعتهم بالعكس من ذلك تماماً، فكثرة البرد ينتج عنها انقباض الروح الحيواني، ومن ثمة انقباض الطبع والحزن والنظر في العواقب. وهكذا، فأحسن الأمور أوسطها، وأوسط العمران وأعدله هو الموجود بالأقاليم المتوسطة التي تتوفر لأهلها "كافة الأحوال الطبيعية للاعتمار... من المعاش والمساكن والصنائع، والعلوم والرئاسات والملك... فكانت فيهم النبوءات والملك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة". ولما كان المقصود بالدراسة هو العمران الكامل مادة وصورة، أو الاجتماع "المفضي إلى الملك والدولة"، فإن البحث في علم العمران سيقتصر على هذا النوع فقط: النوع المعتدل، ومن ثمة الكامل من العمران. هذه آراء قديمة بدون شك! لكن مفهوم "جغرافية العمران" الذي اعتبرته الإيديولوجيات المعاصرة مفهوما متجاوزاً خصوصاً عندما أحلت الماركسية محله مفهوم "أسلوب الإنتاج"، قد فرض نفسه من جديد، وعلى بعض الماركسيين أنفسهم حينما حالوا تعليل سقوط الاتحاد السوفييتي بدور العوامل الطبيعية من جنس ما ذكره ابن خلدون. أما الواقع العربي، العمراني والسياسي، فهل كان سيختلف اليوم عما كان عليه زمن ابن خلدون لو لم يكن النفط؟