«إنك لم تر بعد الواجهة الغربية لكاتدرائية نوتردام»، هكذا قلنا لأبي ممازحين. في أول مرة اصطحبتنا والدتي، وهي متخصصة في تاريخ الفن وإحدى أكبر المعجبات بالهندسة القوطية، إلى كاتدرائية باريس، كانت الواجهة الأمامية مغطاة بالسقالات، بينما كان العمال منهمكين في إزالة سنوات من الأتربة المتراكمة، محوِّلين الحجر الرمادي الغامق إلى درجات أفتح لدرجة أنه بدا شبه أبيض. وبعد سنوات زرنا - أنا ووالدتي وشقيقتي - الصرح الشامخ مرة أخرى. وكان والدي مضطراً للعمل. فكنا نذكّره بذلك وكان يكرهه.
كانت تماثيل 28 ملكاً من ملوك يهوذا منتصبة في صف دراماتيكي على واجهة الكاتدرائية. وظناً منهم أنها تماثيل ملوك فرنسيين، قُطعت رؤوس التماثيل وأُزيلت خلال اضطرابات الثورة الفرنسية. ثم وُضعت نسخ جديدة في القرن التاسع عشر. فالبراعة البشرية بنت نوتردام. والحماقة البشرية
شوّهتها. والتقدير البشري للقديم والجميل أنقذها – من قبل، على كل حال.
مشينا على السطح لرؤية ديكور الكنيسة الغني عن كثب. الزمن حوّل تماثيل السطح إلى اللون الأخضر الفاتح، وهو مؤشر على النحاس الذي تعرض للأكسدة.
ويوم الاثنين، غشى ردُّ فعل كيماوي آخر سطحَ الكنيسة - ومن يدري كم من المبنى. كم من الكاتدرائية أضحى اليوم مجرد ذكرى؟ هكذا كتبت لي والدتي «المصدومة والمفجوعة» في رسالة هاتفية مساء الاثنين. «سهم» الكاتدرائية، ذاك العمود الذي يشبه الرمح في أعلى الكنيسة، انهار. وقد قدم المسؤولون الفرنسيون روايات مختلفة مساء الاثنين حول حجم الأضرار التي تسبب فيها الحريق.
ولكن، لماذا يكون رد فعل البشر على دمار الأشياء القديمة عاطفيا؟ تخريب «داعش» لمدينة تدمر القديمة أثار مشاعر حزن وخسارة أكبر بكثير من موت ما لا يعد من السوريين. ونهب كنور بلاد الرافدين القديمة أصبح رمزاً للفوضى ما بعد الغزو في العراق.
الأشياء القديمة يمكن أن تكون جميلة. وهي غالباً ما تكون فريدة من نوعها. ونوتردام كانت الاثنين معاً. فالوقت الذي استغرقه بناؤها، ومهارات الصناع الذين أبدعوها، وحقيقة أنه لم يعد أحد يبني على النمط القوطي.. كل هذه الأشياء تعطيها قيمة.
غير أننا نحب أيضاً قدمها. فالمباني القديمة ترمز إلى فكرة أن ليست كل الأشياء يجب أن تنتهي. وهذا وعدُ أديان كثيرة، أملٌ تقاسمته قرون من المتعبدين الذين كانوا يتجمعون داخل نوتردام. غير أن حتى عتاة الملحدين يستطيعون أن يشعروا بالرغبة في الاستمرارية في كونٍ واسعٍ ودائمِ التطور يبدو غير مكترث بنا. عندما تحترق الأشياء القديمة، نرممها، حتى وإن لم تكن تلك تماثيل الملوك الـ28 الحقيقية.
إن نوتردام لم تمت. فالكاتدرائية ستنهض من جديد. وستكون جميلة مرة أخرى. و«السهم» سيكون بديعاً كما كان. ولكن على نحو ما، لن تكون الكاتدرائية حية مثلما كانت ذات يوم. والواقع أنني لم أكن أدرك حتى الاثنين كم كنت أتطلع لاصطحاب أبنائي المقبلين إلى الكنيسة والإشارة بأصبعي إلى النوافذ الوردية الرائعة، تلك النوافذ نفسها التي كنت قد أتأمل لونيها الأحمر والأزرق عندما كنت في الحادية عشرة من عمري. كنت سأقول لهم كيف كان صناع العصور الوسطى مهرة وقادرين تطويع الكيمياء بالطريقة الصحيحة لإنتاج مثل هذه الألوان العميقة، في إبداع يشبه السحر. أو ربما كنت سأضطر للعمل، وكانوا سيجعلونني أشعر بالندم لأنني لم أكن حاضرا هناك لتقاسم تلك اللحظة معهم.
لا أعرف حتى الآن ما إن كان الزجاج الملون قد اختفى. آمل ألا يكون قد فعل. فأنا أرغب في تجربة ربط أبنائي بالماضي، وبماضي أنا. ولذلك، فبينما تحترق نوتردام، كذلك يحترق جزءٌ من قدرتنا على الارتباط بالماضي، وبالمستقبل.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
كانت تماثيل 28 ملكاً من ملوك يهوذا منتصبة في صف دراماتيكي على واجهة الكاتدرائية. وظناً منهم أنها تماثيل ملوك فرنسيين، قُطعت رؤوس التماثيل وأُزيلت خلال اضطرابات الثورة الفرنسية. ثم وُضعت نسخ جديدة في القرن التاسع عشر. فالبراعة البشرية بنت نوتردام. والحماقة البشرية
شوّهتها. والتقدير البشري للقديم والجميل أنقذها – من قبل، على كل حال.
مشينا على السطح لرؤية ديكور الكنيسة الغني عن كثب. الزمن حوّل تماثيل السطح إلى اللون الأخضر الفاتح، وهو مؤشر على النحاس الذي تعرض للأكسدة.
ويوم الاثنين، غشى ردُّ فعل كيماوي آخر سطحَ الكنيسة - ومن يدري كم من المبنى. كم من الكاتدرائية أضحى اليوم مجرد ذكرى؟ هكذا كتبت لي والدتي «المصدومة والمفجوعة» في رسالة هاتفية مساء الاثنين. «سهم» الكاتدرائية، ذاك العمود الذي يشبه الرمح في أعلى الكنيسة، انهار. وقد قدم المسؤولون الفرنسيون روايات مختلفة مساء الاثنين حول حجم الأضرار التي تسبب فيها الحريق.
ولكن، لماذا يكون رد فعل البشر على دمار الأشياء القديمة عاطفيا؟ تخريب «داعش» لمدينة تدمر القديمة أثار مشاعر حزن وخسارة أكبر بكثير من موت ما لا يعد من السوريين. ونهب كنور بلاد الرافدين القديمة أصبح رمزاً للفوضى ما بعد الغزو في العراق.
الأشياء القديمة يمكن أن تكون جميلة. وهي غالباً ما تكون فريدة من نوعها. ونوتردام كانت الاثنين معاً. فالوقت الذي استغرقه بناؤها، ومهارات الصناع الذين أبدعوها، وحقيقة أنه لم يعد أحد يبني على النمط القوطي.. كل هذه الأشياء تعطيها قيمة.
غير أننا نحب أيضاً قدمها. فالمباني القديمة ترمز إلى فكرة أن ليست كل الأشياء يجب أن تنتهي. وهذا وعدُ أديان كثيرة، أملٌ تقاسمته قرون من المتعبدين الذين كانوا يتجمعون داخل نوتردام. غير أن حتى عتاة الملحدين يستطيعون أن يشعروا بالرغبة في الاستمرارية في كونٍ واسعٍ ودائمِ التطور يبدو غير مكترث بنا. عندما تحترق الأشياء القديمة، نرممها، حتى وإن لم تكن تلك تماثيل الملوك الـ28 الحقيقية.
إن نوتردام لم تمت. فالكاتدرائية ستنهض من جديد. وستكون جميلة مرة أخرى. و«السهم» سيكون بديعاً كما كان. ولكن على نحو ما، لن تكون الكاتدرائية حية مثلما كانت ذات يوم. والواقع أنني لم أكن أدرك حتى الاثنين كم كنت أتطلع لاصطحاب أبنائي المقبلين إلى الكنيسة والإشارة بأصبعي إلى النوافذ الوردية الرائعة، تلك النوافذ نفسها التي كنت قد أتأمل لونيها الأحمر والأزرق عندما كنت في الحادية عشرة من عمري. كنت سأقول لهم كيف كان صناع العصور الوسطى مهرة وقادرين تطويع الكيمياء بالطريقة الصحيحة لإنتاج مثل هذه الألوان العميقة، في إبداع يشبه السحر. أو ربما كنت سأضطر للعمل، وكانوا سيجعلونني أشعر بالندم لأنني لم أكن حاضرا هناك لتقاسم تلك اللحظة معهم.
لا أعرف حتى الآن ما إن كان الزجاج الملون قد اختفى. آمل ألا يكون قد فعل. فأنا أرغب في تجربة ربط أبنائي بالماضي، وبماضي أنا. ولذلك، فبينما تحترق نوتردام، كذلك يحترق جزءٌ من قدرتنا على الارتباط بالماضي، وبالمستقبل.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»