أسعدني كثيراً احتفاء مركز أبوظبي للغة العربية بـ «يوم الشعر العالمي»، فانتهزت هذه الفرصة للكتابة عن الشعر وأهميته في حياة العرب منذ القدم، وهذا أمر يتناسب مع أجواء العيد، فلعلنا نروّح قليلاً عن نفوسنا. ويأتي هذا الاحتفال ليؤكد مواصلة أبوظبي دورها عاصمةً للريادة ليس فقط لكونها تتطلع نحو المستقبل، وتحرص على امتلاك أدواته وتقنياته الحديثة، وإنما لأنها تعمل على ترسيخ الهوية والاعتزاز بالتراث بما يحمله من قيم أصيلة انطلاقاً من الشعار الملهم الذي قاله حكيمنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه: (من ليس له ماضٍ لا مستقبل له).
والشعر ليس مجرد فن أدبي، وإنما هو سجل تاريخي واجتماعي حفظ تراث العرب قبل ظهور الكتابة والتدوين المنظم. فقد كان وسيلة أساسية لتوثيق لغتهم وأمجادهم، وحروبهم، وقيمهم، وعاداتهم، وحتى أنسابهم، ولهذا لم يكن غريباً أن يوصف بأنه «ديوان العرب»، لكونه أرشيفاً حيّاً يعكس حياة العرب في مختلف العصور. من خلاله، يمكن فهم طبيعة الحياة والناس، بما في ذلك الصفات التي كانت تُمدح مثل الكرم والشجاعة، والصفات التي كانت تُذم مثل الجبن والبخل. كما نقل لنا الشعر بدقة تفاصيل ما يجري من أحداث كبرى، وحمل في أبياته خلاصة التجارب الإنسانية، كما عبّر عن المعتقدات والأخلاق، وكان مصدر إلهام وحكمة. ولهذا ولغيره من الأسباب، بات للشعر مكانة خاصة لدى أبناء لغة الضاد، وهو الذي لا يزال يتمتع بسحره وقدرته على التأثير في النفوس وإلهاب المشاعر. ومن ثم لم يكن غريباً أن يصفه المؤرخون بأنه «ديوان العرب».
وعبر مختلف العصور، كانت للشعر حمولاته العاطفية، الثقافية، التاريخية، والاجتماعية التي من خلالها يظل الشعر قوة مؤثرة تشكّل الوجدان، وتنقل التراث من جيل إلى آخر، وتؤرخ للأحداث الكبرى التي صنعت تاريخنا كعرب. ومن أبرز الأمثلة على ذلك حرب داحس والغبراء التي كان زهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد أبرع من تناولها برأيي، وكذلك حرب البسوس التي أرّخ لها الزير سالم والمهلهل بن ربيعة وعمرو بن كلثوم الذي قال:
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ * تخرّ له الجبابرُ ساجدينا
أما في مجال الغزل، فقد برع العرب في تصوير معاناتهم مع الحب والمحبوب، فكانت قصائدهم لوحات شعرية رائعة. ومن أروع ما قاله امرؤ القيس في الحب:
رجل وما استسلمْتُ قَبلُ لفارسٍ * مالي أمام عيونها مستسلِمُ
أأعودُ منتصِراً بكل معاركي * وأمام عَيْنيها البريئة أُهْزَمُ
أنا شاعرٌ ما أسعفتْه حروفه * الحبُّ من لغة المشاعر أعظمُ
كما عبر قيس بن الملوح، مجنون ليلى، عن عذابه قائلاً:
مَتى يَشتَفي مِنكَ الفُؤادُ المُعَذَّبُ * وَسَهمُ المَنايا مِن وِصالِكِ أَقرَبُ
فَبُعدٌ وَوَجدٌ وَاِشتِياقٌ وَرَجفَةٌ* فَلا أَنتِ تُدنيني وَلا أَنا أَقرَبُ
ومن الشعر الحديث، نجد شاعر الإمارات الكبير مانع سعيد العتيبة يقول:
أتظنُّ أنك في هواك مخيَّرُ * وإذا أردتَ تغيُّراً تتغيرُ؟
كلا ففي طبع الهوى يا سائلي* حُبُّ الحبيبِ على المحبِّ مقدر
وأختم بأبيات لي، قلتُ فيها:
الحب مثل الغيم يجعل صحاري * قلوب البشر غيثه بساتين خضرا
يا كم صقور أمست ضحايا الحباري * فيه وسبت كم فارس عيون عذرا
وطالما كان دور الشعر كبيراً، فمن الطبيعي أن يحظى الشعراء بمكانة عالية في المجتمع، وهم الذين كانوا وما يزالون يقدمون أجمل إبداعاتهم في قوالب شكلية مختلفة، وبروح عالية تحملنا كقراء إلى عوالم بعيدة تتجاوز حدود المكان الذي نعيش فيه، والزمان الذي ننتمي إليه.