يجلس رجل عجوز وزوجته يراقبان غروب الشمس، ويتذكران سالف الأيام، ثم تكون المفاجأة الصادمة، لقد توقفّت الشمس عن الغروب، ثم إنها بدأت بالتحرك نحو الشرق. ومع هذه الحركة العكسية المخيفة تحركت الأيام كلها إلى الوراء، وانتقل الناس من اليوم إلى الأمس، ثم أول أمس، وهكذا إلى الوراء.. دون توقف.لم يعد المستقبل جزءاً من الغيب، بل أصبح معروفاً يقيناً، ذلك لأن المستقبل هو ببساطة الماضي، فعجلة الزمن تدور نحو الخلف، ويعرف الناس جميعاً ماذا سيحدث غداً وبعد غد. يصغُر الناس في السنِّ يوماً بعد يوم، من الشيخوخة إلى الكهولة إلى الشباب، ثم المراهقة فالطفولة.
ويعود الموتى للحياة في توقيت موتهم، ويتجمع الأحبة عند المقابر بانتظار خروجهم. لكن المفاجأة أن الإنسان الذي كان يمضي إلى الموت بعد الشيخوخة لن ينجو منه، بل إنه يتجه أيضاً إلى الموت من جديد، إذ إنه يصغُر سناً، عاماً وراء عام حتى يعود إلى رحم أمه، ثم تنتهي الحياة.
هذه السطور هي موجز مسرحية «عجلة الأيام» للكاتب المصري يوسف عز الدين عيسى، وهي واحدة من روائع عديدة، دار كثير منها حول الموت والحياة، الله والإنسان، الدنيا والآخرة.. عالم الغيب والشهادة. في الفيوم عام 1914 ولد الأديب وأستاذ العلوم البارز «يوسف عز الدين عيسى»، وفي عام 1938 أصبح معيداً في كلية العلوم جامعة القاهرة، ثم واصل رحلته التي صار في بعض فصولها صديقاً لعالم الكيمياء الحيوية «هانز كريبس» الحائز جائزة نوبل، والأديب البريطاني الشهير جورج برنارد شو.
انشغل يوسف عز الدين بدراسة علم الحيوان في الجامعة، وانشغل بدراسة علوم الإنسان في الأدب. وقد أجادَ في فهم الاثنيْن معاً، فكان من مؤسسي أقسام علم الحيوان في جامعتي الإسكندرية وطنطا، وكان أيضاً أول من كتبَ المسلسل الإذاعي في العالم العربي، وكانت أعماله الأدبية والإذاعية من بين أفضل ما أُنتج في مصر. إذا كان يوسف عز الدين قد بدأ حياته بمسرحية «عجلة الأيام»، فإنه اختتمها برواية «عواصف» التي تبحث هي الأخرى في الحياة والموت، والقضاء والقدر، والوجود والعدم.
وفي أثناء زيارته للولايات المتحدة ألقى محاضرة بعنوان «هل هو الله أم الطبيعة؟» وهي المحاضرة التي أعادها في النادي الأدبي في جدّة، وفيها يرد على الملحدين ويطرح رؤيته لوجود الله من منظور العلم والمنطق.. وقد صدرت المحاضرة لاحقاً في كتاب صغير.
اقترب يوسف عز الدين من العالم البريطاني «هانز كريبس» حائز نوبل الشهير، حيث كانا يتحدثان معاً في استراحات العمل بجامعة «شيفيلد» في قضايا الآداب والفنون والفلسفة. كما أنه اقترب من الأديب الشهير برنارد شو، وقد كانت العلاقة قوية إلى حدّ زيارة عز الدين لبرنارد شو في منزله.. ومما نقله الضيف عن مُضيفه.. قوله: «عندما كنت صغيراً كنتُ أعتقد أنني أعظم من شكسبير، وعندما نضجت قليلاً شعرتُ أننا متساويان، والآن فأنا أعتقد أنني لم أفعل شيئاً على الإطلاق».
يحتاج يوسف عز الدين عيسى إلى القراءة من جديد.. فذلك النسيج الذي شكّل أديبنا الكبير.. من العلم والدين والفلسفة، وذلك الإبحار في معنى العيش وحقائق الوجود.. جعل من أعماله مصدر تفكير متجدداً، ودعوة مستمرة لسبْر أغوار النفس، وعدم الجنوح بعيداً عن جوهر الحياة. تلك الحياة المحاصرة بحتمية النهاية.. سواء مضى الإنسان في طريق العُمر، أو عاد إلى الوراء بآلة الزمن. إنها فترة قصيرة بين ظلاميْن.. لا يمكنها أن تكون ذات قيمة ما لم تمتلئ بالضوء.
*كاتب مصري