بعد تشكيل الحكومة اللبنانية ونيلها ثقة مجلس النواب، بدأ لبنان مسيرة عودته إلى «الحضن العربي» من بوابة المملكة العربية السعودية، وعبر جامعة الدول العربية التي تضم 22 دولة، وهو«مؤسس تاريخي» فيها بين ست دول، في أربعينات القرن الماضي، بعدما ابتعد عنها أكثر من 10 سنوات، لأسباب «قاهرة»، تتعلق بتطورات سياسية وأمنية وإقليمية ودولية، وذات علاقة استراتيجية بصراعات النفوذ وتقاطع المصالح في المنطقة، وذلك تمهيداً لاستعادة علاقاته السياسية والاقتصادية الطبيعية مع جميع الدول العربية، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي.

وفي سياق مسيرة لبنان العربية، تواجه حكومته تحديات كبيرة، تبدأ باستعادة «الثقة الاستثمارية»، وتمهّد لمعالجة ملفات مالية وإقتصادية، لا يمكن حلُّها من دون مساعدات خارجية، يتم الاتفاق عليها مع مؤسسات التمويل العربية والدولية، وبينها صندوق النقد الدولي الذي أعرب عن تطلعه «للعمل بشكل وثيق مع الحكومة اللبنانية، في إطار تعزيز الجهود المبذولة لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية والمالية»، مع التأكيد على أن تحقيق ذلك يتطلب التزام لبنان بكل القرارات السياسية الدولية لاسيما القرار1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، ومندرجاته، كما ورد في خطاب القسم لرئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، والذي يتضمن مسؤولية الدولة وحيدة، دون غيرها في حمل السلاح وقرار الحرب والسلم وتوفير الأمن والاستقرار على كافة الأراضي اللبنانية، وحماية مصالح جميع اللبنانيين، والمقيمين العرب والأجانب.
ويبرز في هذا المجال، إنشاء الصندوق المستقل لإعادة الإعمار، بكلفة 10مليارات دولار، وهو ليس بالأمر السهل، خصوصاً مع وجود حاجة لإعادة إعمار غزة بكلفة 53 مليار دولار، وإعادة إعمار سوريا بنحو 400 مليار دولار، وكلها أرقام ضخمة، من شأنها أن تحث لبنان على التضامن مع الدول العربية والدول الصديقة، للحصول على حصته من إعادة الإعمار في المرحلة المقبلة. وبما أن المطلوب من الحكومة اللبنانية إظهار حُسن النية بالتعاطي مع أي مبلغ يصل من الخارج، يجب تشكيل لجان مشتركة بين لبنان والجهات المانحة للتأكد من أن هذه المبالغ يتم إنفاقها في المكان المناسب، وبما يعزّز الشفافية ومكافحة الفساد وإبعاد أي شبهة باختلاس الأموال أو تبييضها.
أما بالنسبة لتعزيز «الثقة الإستثمارية» وجذب المستثمرين واستعادة عافية الاقتصاد اللبناني، فذلك يتطلب إنجاز عدة ملفات أساسية، لعل أهمها، حل مشكلة المودعين وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. 
وخلافاً لرأي صندوق النقد بشطب الودائع المحتجزة، فقد أكد وزير المالية ياسين جابر «أن الشطب غير وارد، وأن الأولوية ستعطى لصغار المودعين بوضع مبلغ (فريش دولار) في حسابهم، لاستخدامه تباعاً بسبب الظروف المعيشية، ثم إيجاد حل لباقي المودعين من خلال صندوق استرداد الودائع».
 وعلى رغم أن إجمالي الودائع انخفض من 174مليار دولار في العام 2018 إلى 90 مليار دولار بنهاية العام الماضي، فإن القطاع المصرفي لا يزال عاجزاً عن استعادة دوره الأساسي في تمويل الاقتصاد.

وتستعجل المصارف لحشد مواقف مؤيدة لطروحاتها القائمة على تحميل الدولة ومصرف لبنان كامل المسؤولية في تغطية الخسائر المقدرة بنحو 80 مليار دولار، وتسعى إلى تسويق نظرية تسييل «الذهب» البالغة قيمته نحو 28 مليار دولار، لإعادة أموال الشريحة الأكبر من المودعين. وفي الوقت نفسه يطرح معهد التمويل الدولي مجموعة من الخيارات لتسوية الودائع، بإعطاء الأولوية لاستعادة الودائع التي تقل عن 500 ألف دولار، وهي تمثل 97 في المئة من عدد الحسابات، ونحو 60 في المئة من قيمة الودائع، شرط الأخذ في الاعتبار قضية استدامة الدين العام.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية.