يتصور البعض أن الوظيفة الدبلوماسية ترتبط بإدارة العلاقات السلمية التعاونية بين الدول، وهو اعتقاد صحيح بطبيعة الحال، لكنه لا يعكس سوى جانب واحد من جوانب هذه الوظيفة، فالدبلوماسية أداة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، وقد تكون هذه السياسة سلمية فتكون الدبلوماسية انعكاساً لها، وقد تكون خشنة أو حتى عدوانية، وهنا لا بد وأن تتماشى الدبلوماسية معها وتخدمها.
وهكذا فإنه كما تكون الدبلوماسية آلية لإدارة العلاقات السلمية التعاونية بين الدول، وكما تفضي الجهود الدبلوماسية المضنية للتوصل لاتفاقات حول خلافات مستعصية بين دولتين أو أكثر، فإنها في الوقت نفسه تُستخدم لأغراض صراعية تبدأ باستفزاز الخصم بتصريحات معادية قد تصل لحد الإهانة، وذلك لإجباره على رد يُستخدم ذريعة لاتخاذ إجراءات خشنة تجاهه قد تصل لحد العمل العسكري. بل قد تقوم الدبلوماسية بدور مباشر في التمهيد لعمل عسكري بتوجيه إنذار للخصم يطالبه بأعمال تمس سيادتَه ولا يمكنه قبولها، ومن ثم يُستخدم رفضه مبرراً للاعتداء عليه.
كذلك يمكن أن تقوم الدبلوماسية بدور في خداع الخصم في أزمة حادة، عبر تقديم مبادرة دبلوماسية توحي بالرغبة في التسوية السلمية للأزمة وتفادي الحرب، فيما يكون الغرض الأصيل منها هو خداع الخصم بإشاعة الانطباع بوجود نية أكيدة للتوصل لاتفاق ومن ثم الاسترخاء، بينما يكون قرار الحرب قد اتُخذ فعلاً. وهكذا فإنه كما أن للدبلوماسية وظائفها السلمية التعاونية، يُمكن أن تُوَظَّف في الوقت نفسه لأغراض إكراهية تتصل بإدارة الصراعات الدولية.
وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم مجريات المؤتمر الصحفي الأخير بين الرئيس الأميركي ونائبه من جانب والرئيس الأوكراني من جانب آخر، فقد ذهب زيلينسكي لواشنطن في إطار الجهود التي يبذلها ترامب لتسوية الصراع بين أوكرانيا وروسيا، وهي جهود من السهل تَبيّن أن مضمونها في صالح روسيا من زوايا أساسية.
صحيح أننا لا نعرف حتى الآن على وجه الدقة ما الذي سيطالب به ترامب نظيرَه الروسي مقابل المزايا التي سيحصل عليها، لكن يكفي أن أفكار ترامب تنطوي على اعتراف بالمكاسب الإقليمية التي حققتها روسيا منذ 2014، ورفض لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ناهيك بما فُهِم من أن ترامب يريد توقيع اتفاقية خاصة بالمعادن النادرة في أوكرانيا، مع تلميحات بأن هذه الاتفاقية ستكون بمثابة تعويض من أوكرانيا للولايات المتحدة مقابل المساعدات التي حصلت عليها لدعمها في حربها مع روسيا.
ومن الواضح أن زيلينسكي لم يكن مستعداً للتسليم بكل تلك التنازلات دون قيد أو شرط، ومن ثم جرت وقائع المؤتمر الصحفي غير المسبوق بينه وبين ترامب ونائبه، والذي انطوى على إهانات واتهامات صريحة، بما في ذلك اتهامه بنكران الجميل الأميركي، ناهيك عن سخرية أحد الصحفيين من ملابسه.
وقد شاهد الملايين ما جرى على الهواء، وانتهى الأمر بطلب مغادرته البيت الأبيض. ومن الواضح، أخذاً للسوابق القريبة في الاعتبار، أن هذا سيكون أسلوباً متكرراً لدبلوماسية ترامب الخشنة إزاء مَن يختلف معهم.
وسيكون من المثير لو حاولنا قياس مدى فاعلية هذا الأسلوب. وما من شك في أن ترامب يمتلك أوراق القوة في مواجهة خصومه والمختلفين معه، غير أن المعضلة أن مطالبه تجاههم تتعلق بقيم عليا يصعب التضحية بها دون ثمن سياسي باهظ. وعموماً فإن الأيام القادمة حاسمة في هذا الصدد، وبالذات على ضوء ما سيفعله الأوروبيون تجاه سياساته الجديدة.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة