تتأرجح إسرائيل في خياراتها في التعامل مع قطاع غزة ما بين الاستمرار في مسار التهدئة، وإتمام اتفاق وقف إطلاق النار، والانخراط في مسار المرحلة الثانية في التفاوض، والوصول إلى الصفقة الشاملة، وبين التراجع خطوات تدريجية وتكتيكية إلى حين اتضاح ما سيجري في قطاع غزة، وتخلي حركة «حماس» طواعية عن إدارة المشهد الداخلي، خاصة مع المناورات السياسية التي تتبعها حركة «حماس» بين الإعلان عن تخليها عن إدارة القطاع، وتسليمه إلى السلطة الفلسطينية، وبين التأكيد على أن هذا الأمر لن يتم، ويدعم هذا الأمر تتالي التصريحات المتضاربة من قيادات الحركة.
في هذا السياق لا تزال إسرائيل تراقب وتتابع للوصول إلى الخطوة التالية مع ارتباط تفاصيل مفاوضات المرحلة الثانية بعدم وجود حركة «حماس» في سدة الحكم حتى لو كان إجراء مرحلياً أو مؤقتاً، فالثابت - والذي يحظى بقبول جمعي في إسرائيل - أنه لا وجود لحركة «حماس» في الداخل، وأن هذا التصور الإسرائيلي يدعمه أيضاً الجانب الأميركي، وتحركات المبعوث ستيف وتكوف تمضي في هذا السياق، ما يؤكد أن إسرائيل لن تقبل إلا بخيار محدد خارج ما هو قائم في ظل رهانات حركة «حماس» على أمرين الأول: الحصول على صفقة الدفعة الواحدة والإفراج عن كل المحتجزين مقابل كل الأسرى وإنهاء الحرب وانسحاب إسرائيل من القطاع.
والثاني: العزف على عنصر الوقت للتحرك للأمام، مع إطالة أمد التفاوض على المحتجزين مع تخوفها من وفاة بعضهم، ما قد يؤثر في مسار ما يجري في الوقت الراهن، ومن ثم فإنها تتأرجح بين التجاوب مع ما يجري تارة، والتخوف من الاستمرار في التفاوض وخسارة أوراقها، واستئناف المواجهات مجدداً. سيرتبط القبول الإسرائيلي بالخيارات الراهنة في قطاع غزة بالاتفاق على البديل المطروح والمقبول الأول: عودة السلطة إلى إدارة القطاع مدعوة بموقف عربي مساند ومؤيد وداعم وليس فقط بالمساعدات مع إعادة تعويم السلطة الفلسطينية بصورة كبيرة، وإجراء تغييرات حقيقية في هيكلها السياسي، وشرعية مؤسساتها ونظامها المتهالك وسيرتبط ذلك بقبول إسرائيلي حقيقي بما سيتم من خلال توافق عربي أميركي، وإنهاء الدعاوي الراهنة بعدم وجود البديل الفلسطيني، والذي قد يكون مطروحاً في إطار لجنة حكم، أو إعادة تغيير شكل الحكومة الراهنة غير الفصائلية (حكومة محمد مصطفى)، أو تشكيل حكومة تكنوقراطية تتولى إدارة الأوضاع الخدمية في قطاع غزة.
والثاني: القبول الحذر بإدارة عربية دولية للقطاع مع تدخلات إسرائيلية على أن يكون الأمر مرتبطاً بمتابعة سلوك حركة «حماس» في القطاع، وحرية التدخل عند الضرورة للتعامل مع أي أنشطة للحركة في الداخل، وهذا الأمر سيكون متاحاً لإسرائيل في كل الأحوال بصرف النظر عما يجري من تطورات، خاصة أن المستوى العسكري ينتقد المستوى السياسي في إسرائيل أنه عجز عن تقديم البديل، وأن الحل العسكري هو في الأصل مقدمة لما هو قادم من خيارات سياسية.
ومن ثم، فإن الاتفاق على استمرار المواجهات مجدداً سيكون مطروحاً بصورة واضحة برغم استمرار المشهد الراهن، وقرب دخول شهر رمضان، وتخوف إسرائيل من مواجهات جديدة تؤثر على توجهات الجمهور الإسرائيلي ومطالبته بصفقة شاملة، وإنهاء ما يجري، وترك القطاع مع تبني مقاربة عسكرية شاملة للدفاع عن مصالح إسرائيل، وهو ما يعني استمرار احتلالها المناطق الأكثر احتياجاً مع العمل من داخل القطاع وخارجه عند الضرورة مثلما يحدث بالضفة الغربية، أي حرية التعامل مع مكامن الخطر في إي لحظة. ويبدو أن إسرائيل ستظل ستعتمد على خيارها العسكري بصرف النظر عن قبولها بأي حل في غزة، سواء الاستمرار في التفاوض، أو الاتجاه إلى إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، ما يعني أن إسرائيل ستظل تضغط في هذا الاتجاه من خلال موقف أميركي حازم يدعو لإنهاء حكم حركة «حماس»، والقبول بأي خيارات أخرى قد تكون أقل خطراً أو قلقاً لدى الدوائر الإسرائيلية.
إسرائيل وفي ظل التفاوض الجاري على بدء المرحلة الثانية سيكون لها خيارها الرئيس في الحسم والتدخل، خاصة أن إسرائيل ترتب خياراتها وفق ما يجري من مخططات في إطار تقديم تسهيلات لخروج سكان القطاع من غزة طواعية، والبدء في تنفيذ هذا المخطط بصورة كبيرة مع التحريض اليهودي من منظمات يهودية في إسرائيل وداخل الولايات المتحدة بتعجيل هذا السيناريو، وتفريغ القطاع من سكانه، والانتقال إلى واقع ديمغرافي جديد عبر أطراف دولية، وشركات متعددة الجنسيات ومؤسسات مانحة ستعمل على تغيير واقع القطاع من كل المستويات السياسية والأمنية. وهو ما قد ينفذ رؤية الرئيس ترامب واقعياً على الرغم من كل التحركات العربية المسؤولة، والتي تطرح مشروعاً عربياً للإعمار من خلال تحرك مقابل يقر بضرورة إبقاء السكان الفلسطينيين، وبدء مسار الإعمار بالكامل من خلال دور عربي ودعم دولي.
يمكن التأكيد إذا إن قبول إسرائيل بحل حقيقي في قطاع غزة مرتبط فعلياً بتطورات داخلية وضغوط الجمهور الإسرائيلي، وموقف الولايات المتحدة وقدرة الوسطاء للعمل في اتجاه «حماس» إضافة إلى موقف «حماس» الواقعي في ظل ما يجري من تطورات مفصلية تجري في قطاع غزة وطرفها الرئيس سكان القطاع أنفسهم.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.