أخبر دونالد ترامب الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو، بشكل قاسٍ وصريح، أنه سيحلّ مشكلة الحرب في أوكرانيا مباشرة مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، وهو ما شكّل صدمة كبيرة للأوروبيين الذين لطالما اعتمدوا على الولايات المتحدة في ضمان أمنهم. والجدير بالذكر هنا أن خطط الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، التي لطالما دافعت عنها فرنسا - وإن خفت حماسها في هذه القضية نوعاً ما منذ بداية الحرب في أوكرانيا - كان يُنظر إليها على أنها تقوّض العلاقات عبر الأطلسي. واليوم، باتت أوروبا تواجه أمراً واقعاً: فالولايات المتحدة ترغمها على أن تتولى أمرها بنفسها، لأن الأمن الأوروبي لم يعد يعنيها. وبذلك، لم تعد الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية خياراً قابلاً للنقاش، بل ضرورة لا مناص منها.كيف كان رد فعل الأوروبيين على هذه الصدمة؟

الواقع أنهم مذهولون لأن عالمهم ينهار. ويحاولون حالياً إنقاذ ما يمكن إنقاذه، غير أن الأمر يتعلق بالنسبة لهم بثورة استراتيجية حقيقية. وفي الوقت الراهن، تسير المشاورات بين الأوروبيين بوتيرة متسارعة. مشاورات كانت لها، على الأقل، ميزة إثارة سؤال ما إن كان ينبغي لهم الاستمرار في مساعدة أوكرانيا لأنه من غير المقبول أن تخسر، ومعرفة ما إن كان ينبغي لهم إرسال قوات إليها كقوات حفظ السلام؟

بيد أن هذا الخيار الثاني يطرح مشكلة. ذلك أن روسيا تعارض إرسال قوة لحفظ السلام إذا كان الأمر يتعلق بقوات من الدول الأعضاء في الناتو. وفضلاً عن ذلك، فإن الولايات المتحدة تقول إنها لا تريد دعم هذا الخيار. وبريطانيا، التي تؤيد إرسال قوات إلى أوكرانيا، تقر بأنه سيكون من الصعب تصوّر إرسال قوات من دون الدعم الأميركي. ولكن لماذا طرح حل يعلم الجميع أنه غير قابل للتطبيق؟ لماذا والحالة هذه لا يغيّر الأوروبيون منظورهم تماماً، بما أن لا شيء سيعود كما كان من قبل؟

فإذا كان إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا خياراً يفتقر للمصداقية لأسباب عدة، فلماذا لا يتم التفكير في خيار مختلف تماماً؟ خيار من قبيل تشكيل قوة لحفظ السلام من قوات من دول (البريكس +)، ولاسيما أن هذه الدول ما فتئت قوتها تزداد وترغب في لعب دور جيوسياسي أكبر. وعلاوة على ذلك، فإن روسيا لن تكون قادرة على المبادرة بمهاجمة أوكرانيا في حال كان لدول البريكس+ جنود هناك. صحيح أن هذا الاقتراح يمكن أن يفسَّر على أنه استفزازي، غير أنه في الوقت الذي ينقلب فيه المشهد الغربي رأساً على عقب، ينبغي التحلي بالإبداع والخيال في تصوّر الحلول. بعضهم يتحدث عن السماح لأوكرانيا بمواصلة الحرب. ولكن هل هذا الأمر مرغوب فيه؟ وهل هناك أي فرصة لاستعادة أوكرانيا للأراضي التي فقدتها؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنه يمكن النظر في استمرار المساعدات العسكرية المباشرة لأوكرانيا.

والحال أن هذا الهدف، الذي لم يكن من الممكن تحقيقه مع المساعدات الأميركية، أصبح تحقيقه اليوم مستبعداً أكثر. وعليه، لماذا إطالة أمد حرب لن تكسبها أوكرانيا، بل حرب ستُضعفها أكثر؟ الواقع أن الأوروبيين وصلوا إلى طريق مسدود لأنهم لطالما أعلنوا أن أوكرانيا وحدها هي التي ستقرر نهاية الحرب، فحرموا بذلك أنفسهم من أي قدرة على التأثير في القضية الأوكرانية.

والحقيقة أن أوروبا أصبحت معزولة بشكل متزايد، وتخاطر بأن تبدو، في نظر دول الجنوب العالمي، مسؤولة عن إطالة أمد حرب لم يعد لها معنى ويجب أن تنتهي، اللهم إلا إذا كان الهدف هو إزهاق المزيد من الأرواح والطاقة والمال.

والواقع أنه من الغريب حقاً رؤية الرئيس زيلينسكي يدعو إلى إنشاء جيش أوروبي ويطالب بالمساعدة الأوروبية، هو الذي لطالما أكد أن الولايات المتحدة وحدها هي التي يمكنها مساعدة أوكرانيا، واضعاً بذلك كل أوراقه في السلة الأميركية، بل إنه استخف بالأوروبيين نوعاً ما، وفي بعض الأحيان أساء معاملتهم. غير أنه في مواجهة دونالد ترامب، أدرك أنه أخطأ الطريق، وها هو يطلب من الأوروبيين اليوم أن يفعلوا المزيد.

الأوروبيون أنفسهم الذين كان ينظر إليهم باستخفاف. اليوم لم يعد هناك خيار، فهل ينبغي زيادة الإنفاق العسكري بشكل جذري؟ ربما من غير الضروري الانخراط في سباق تسلح للوصول إلى نسبة 3 إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي من شأنه أن يرهق المالية العامة للدول الأعضاء، غير انه إذا احترمت هذه الدول التزامها بتخصيص 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، فسيكون ذلك بالفعل نتيجة إيجابية. وخلاصة القول: إنه يجب مقاومة المقترحات غير الواقعية، على غرار تلك التي طرحتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي ترغب في تسريع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي لأن باب الناتو مغلق. والحال أن الجميع يعلم أن دخول أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي سيمثّل كارثة.

وأوكرانيا لا تملك الوسائل التي تؤهلها لذلك في الوقت الحالي لأنها بعيدة جداً عن استيفاء المعايير الاقتصادية، وخاصة معايير مكافحة الفساد والحكامة المطلوبة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. إذ ليس من المؤكد أن كل الأموال المرسلة إلى أوكرانيا ستصل إلى وجهتها الصحيحة في نهاية المطاف. وعلاوة على ذلك، فإن الزراعة الفرنسية لن تصمد أمام دخول أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ثم إن أوكرانيا اختارت حلف الناتو، أما الاتحاد الأوروبي فليس سوى خيار اضطراري بالنسبة لها.

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس.