إن الحديث عن قيام مؤسسات المجتمع المدني بتعزيز التسامح هو أمر بدهي؛ لأن المهمة الأساسية لأي مؤسسة مجتمع مدني تكمن في تجذير التسامح وتعميمه في كل البرامج والمبادرات على اختلافها. كما أن تمكين المرأة، وحماية حقوق الطفل، ورفع مستوى التعليم، ومواجهة التعصب وغيرها، كلها موضوعات رافدة ومؤسِّسة لثقافة التسامح.
وإذا ما أردنا التركيز على التسامح تركيزاً مباشراً، فلا بد لنا من البدء من أساس المشكلات كلها، وأعني به العملية التربوية انطلاقاً من الأسرة، ووصولاً إلى المدرسة فالجامعة. تحتل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مكانة كبيرة في هذا الشأن؛ وإذا أردنا التركيز على قيم التسامح، وجب علينا العمل على رفد المؤسسات التربوية والإعلامية بالمواد والأنظمة المساعدة على تعميم ثقافة التسامح وتعميقها، وصولاً إلى اعتمادها في المناهج الدراسية والتربوية، وفي الخطاب الإعلامي.
وبموازاة ذلك لا بد من العمل على تفكيك السردية التعصبية التي تضرب مفهوم التسامح، وتؤسس لتبنّي بعض الأيديولوجيات العنصرية التي تختبئ خلف بعض الحوادث التاريخية، وتُلبسها لباساً اجتماعيّاً، أو سياسيّاً، أو ثقافيّاً، أو دينياً لشرعنتها. وينبغي كذلك مكافحة التمييز الذي يُعد العدو الوجودي للتسامح، وعلى رأسه التمييز ضد المرأة، والتمييز ضد من يختلفون عنّا في لون البشرة، والديانة التي يعتنقون.
وإذا رغبنا حقًّا أن نتعمق في عملية تأصيل مفهوم التسامح من خلال عمل المجتمع المدني، فلا مهرب من الانخراط في عملية مواجهة حقيقية وفعّالة مع كل مكونات القوى الرجعية، التي تسعى إلى منع التقدم الاجتماعي والسياسي، وصولاً إلى منع التقدم العلمي والتقني باسم المرجعيات التاريخية، والسياسية، والدينية، التي تعمل كأن التاريخ انتهى في الماضي السحيق، ومهمتنا محصورة في إعادة اكتشافه أو إعادته إلى الحاضر.
وأزعم أن أي مسايرة أو قبول لأي شكل من أشكال الرجعية عبر التعايش معها وشرعنتها تحت شعار مسايرة الأمر الواقع، سيؤدي حتمًا إلى ضرب أسس المجتمع المدني القائم على مفهوم التطور الاجتماعي الحضاري الذي يُعد التسامح أحدَ أهم ركائزه. وحتى لا يكون كلامي مجرد افتراض أو ادعاء نظري ينتمي إلى اليوتوبيا الفلسفية، أستطيع أن أقدم دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً لدولة عربية ومسلمة، عايشت التسامح وتقبّلت الآخر منذ انطلاقتها. لقد تمكنت دولة الإمارات من خلال الحكم الرشيد، وتطور المجتمع الأهلي والمدني، من التغلب على عادات ونظريات وادعاءات تراثية تاريخية صادرت العقل والأصالة، وأبعدت الشعوب العربية والمسلمة عن ركْب الحضارة والتقدم والنمو؛ إذ تعيش دولة الإمارات اليوم تجربتها في الإسهام في بناء مجتمع المعرفة العالمي، عبر إسهامات بالغة الأهمية؛ لكونها في مقدمة الدول العربية التي طبقت مفهوم الحداثة المتصالحة مع التراث بمعناها الحقيقي والإيجابي. كما تتقدم دولة الإمارات بخُطىً ثابتة نحو مجتمع المعرفة العالمي من بوابة الإسهام في عدد من المجالات التي لم تكن في حُسبان الدول العربية، ودول العالم الثالث.
ويمكن أن نبدأ من مغامرة استكشاف الفضاء، مروراً بالتنمية المستدامة، واقتصاد المعرفة، والتجارة الدولية، والنهضة العمرانية، والذكاء الاصطناعي، والثورة العلمية في العلوم الجينية، ووصولاً إلى التقدم الحضاري المدني، وتعزيز ثقافة التسامح بين مئات، بل آلاف الأعراق والجنسيات والثقافات، تحت سقف دولة القانون التي يدعمها مجتمع أهلي ومدني قوي يُسهم في نهضة البلاد وعمرانها وتقدمها الاجتماعي والمادي على حدٍّ سواء.
ومن هنا، فإن المجتمع الدولي معنيّ، قبل أن يطلق أي مبادرة أو نظرية أو حتى توصية، بدعم نماذج التطور الحضاري والثقافي والاجتماعي من خلال إبراز هذه النماذج وتعزيزها ونشرها، في خطوة حاسمة تُفضي إلى انتشار ثقافة التقدم الحضاري، وتعزيز روح التسامح والتعاون وتنميتها؛ ما يعزز قوى المجتمعات المدنية ومكوناتها في العالم. وعندما أشير إلى التجربة الإماراتية وغيرها بصفتها نماذج، لا أدّعي مطلقًا أنها تجارب مثالية، بل هي نماذج قيد التطوير والتعديل؛ لكن النموذج الإماراتي نموذج مهم يُسهم في تحفيز مكونات النمو في محيطه، وفي كل الدول النامية، كما يُسهم في مواجهة ثقافة العنف والتطرف والرجعية، من خلال نموذج حيّ يؤكد أن التخلف في جزء من هذا العالم ليس قدَراً محتوماً، ولا هو موروث جيني نهائي؛ وأن التنمية المستدامة والتقدم العلمي والتسامح الاجتماعي، كلها مفردات قابلة للتحقق في أي مدار اجتماعي حضاري، عندما تتوافر الإرادة والمعرفة، وتلتقي مع قيادة سياسية رشيدة وعصرية، ومجتمع مدني ديناميكي.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.