كنت طالباً في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة حين قرر مجلسها الاحتفال بعيد ميلاد نجيب محفوظ الثمانين. عقدت الكلية ندوةً بعنوان «الفكر السياسي في أدب نجيب محفوظ»، واستضافت الأديب العالمي ليلتقي الأساتذة والطلاب، ويتناول «تورتة» عيد الميلاد، ثم يحضر الجلسة الافتتاحية للندوة. من حظي أن أستاذي الدكتور علي الدين هلال، وكان مدير مركز البحوث والدراسات السياسية بالكلية قد اختارني لأكون الطالب الذي يمثل طلاب الكلية في الترحيب بالأديب الكبير.

أبلغني مكتب الدكتور أحمد الغندور عميد الكلية بالاختيار، والدكتور الغندور عالم الاقتصاد البارز كانت له صلة نسب بالأدب، حيث إنه تزوج من ابنة الأديب الكبير يوسف السباعي. لقد سعدتُ كثيراً بهذا الاختيار، ولم أمنع نفسي من التباهي بأنني سأجلس في صالة استقبال كبار الزوار - التي تم تجهيزها لاستقبال الأستاذ نجيب محفوظ- جنباً إلى جنب مع أساتذتي وكبار الشخصيات.

لايزال في ألبومي صوراً لذلك اللقاء. لم أكن ارتدي أفضل الثياب، ولكن ذلك «البلوفر البني» يذكرني دوماً بلقاء الأديب العربي الوحيد الذي حاز جائزة نوبل في الأدب. وقبل أشهر قليلة سعدتُ بلقاء السيدة أم كلثوم نجيب محفوظ ابنة الأديب الكبير، والتي سمعتُ منها جوانب من حياة وسيرة «النوبلي» الكبير.

كان من بين ما قالت لي أم كلثوم والشهيرة باسم «هدى».. أن شقيقتها كانت في صحبة والدها في مقهي وادي النيل بميدان التحرير وسط القاهرة، ثم دخل الدكتور أحمد زويل المقهى مع بعض أصدقائه.

ولما ذهب زويل لمصافحة محفوظ، قبل أن يجلس مع أصدقائه في المقهى، سأل نجيب محفوظ ابنته: هل تعرفين من هذا؟ قالت: لا. قال لها: هذا عالم مصري كبير يعيش في أميركا اسمه الدكتور أحمد زويل، وسوف يحصل هذا العالم على جائزة نوبل.

كان زويل معجباً للغاية بمحفوظ، ولقد جمعتُ بينهما لمدة مائة دقيقة في مركب «فرح بوت»، حين كنتُ أرتب تقديم نجيب محفوظ لكتاب زويل. وذات يوم طلب مني الدكتور زويل نسخة من رواية «أولاد حارتنا» لقراءة مقدمة المفكر الإسلامي الدكتور أحمد كمال أبو المجد لها. وقال لي إنه يريد أن يكتب عن ذلك. مما لا أنساه بشأن زويل ومحفوظ هو أننا كنا - دكتور زويل وأنا - عائدين من الإسكندرية إلى القاهرة، وفي الطريق قال لي الدكتور زويل.. نريد أن نتوقف للصلاة في مسجد نجيب محفوظ.

قلت له: هل هناك مسجد باسم نجيب محفوظ؟ قال لي: نعم.. أنا أعيش في أميركا، ولا أعمل بالإعلام، وأعرف أحسن منك. سألتُ أم كلثوم نجيب محفوظ عن مسجد والدها بطريق القاهرة - الإسكندرية.. قالت لي: لم يعد موجوداً، وقد قام الورثة ببيع المكان! يا للمفارقة.. بينما كان متطرفون يحاولون اغتيال نجيب محفوظ بزعم عمله ضد الإسلام، كان هناك مؤمنون يتلون القرآن ويقيمون الصلاة.. في مسجد نجيب محفوظ! لم يكن نجيب محفوظ أديباً عملاقاً فحسب، بل كان فيلسوفاً عميقاً واسع المعرفة.. أجرى إبداعاته الفلسفية على لسان أشخاصه، ولم يكن القالب الذي اختاره محفوظ هو القصة والرواية، لكنّا أمام فيلسوف عظيم، يملك من الحكمة ما لا يملك جميع منافسيه.

*كاتب مصري