برغم عدم الدخول حتى الآن في المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار، والحديث الإسرائيلي عن احتمالات انفتاح المشهد السياسي، وصياغة حل جزئي، أو مرحلي من قبل الحكومة الإسرائيلية تخوفاً من تفكيك مكوناتها حال الانخراط في مفاوضات المرحلة الثانية، فإن كل الشواهد تشير إلى أن إسرائيل ماضية في خيار آخر، وهو مرتبط بشراء عنصر الوقت والعمل على جزئيات، وليس على إطار شامل، وفق ما تم الاتفاق بشأنه من قبل وتمت صياغته في اتفاق وقف رطلاق النار، ما يؤكد أن مفاوضات المرحلة الثانية ستظل متعثرة بالفعل إلى حين التوصل لآليات للتعامل مع الداخل الإسرائيلي.
وبرغم الضغوط الأميركية التي مارسها وزير الخارجية الأميركي في جولته الأخيرة في الشرق الأوسط، وكذلك المبعوث الأميركي للمنطقة، فإن الأمر لن يتوقف عند مساحة محددة، بل سيمتد إلى فتح المسار السياسي، وهو الأمر الذي ستربح منه حركة «حماس» التي ما تزال قابضة على نظام الحكم في القطاع، وتسعى للاستمرار في المشهد برغم كل ما قيل بأنها ستتخلى عن حكم القطاع، وستقبل بخيارات أخرى مطروحة متعلقة، إما بتشكيل لجنة توافقية غير فصائلية، أو من خلال لجنة عمل مشتركة يمكن أن تكون تكنوقراطية ومرحلية، ولإيجاد الشريك الفلسطيني على الأرض بصرف النظر عن توصيفه، فالطبيعي أن يكون الشريك فلسطينياً، وطبيعي أن يكون منتمياً إلى السلطة الفلسطينية على اعتبار أن الشرعية الفلسطينية ما تزال قائمة وموجودة، ويمكن التعامل معه إن أرادت كل الأطراف من دون شروط تعجيزية، أو التأكيد على هشاشة وضعها السياسي الراهن، ومحاولة فرض خيارات وشروط لاستئناف مهامها وعمله.
ويبدو أن الأمر يتطلب بالفعل مراجعة مهمة في سياقين الأول: مرتبط بحدث القمة العربية المقبلة وللتمهيد الرئيس بقمة التشاورية التي ستشارك في فعالياتها السلطة الفلسطينية، والثاني: التأكيد على خيار الإعمار العربي، والرؤية المصرية العربية المفترض أن يتم الاتفاق بشأنها، وباعتبارها البديل عن أي خيار مطروح، أميركياً أو دولياً، خاصة أن الحضور العربي في قطاع غزة بات أولوية مهمة من الآن فصاعداً، ولحين ترتيب الأجواء الفلسطينية، أو الاتفاق على ما يتم بصورة كبيرة في الوقت الراهن والمنتظر. الحديث عن رفض حركة «حماس» في الداخل أو الخارج، لأي وجود عربي على الأرض، سواء في مسار إعادة الإعمار، أو الإدارة المقترحة لن يخدم الجانب الفلسطيني، بل سيؤدي إلى مزيد من الصراع على الحكم في غزة الذي يواجه بالفعل خيارات صعبة في التعامل.
وقد يؤدي بالأمر إلى تدويل القطاع على اعتبار أنه بات شأناً دولياً يجب الاتفاق بشأنه، خاصة أن الرفض الدولي لاستمرارية «حماس» سيسفر ربما عن غلق الباب أمام إعادة الإعمار كمشروع متكامل، وليس القيام بإزالة حطام، أو ركام كما يتصور بعضهم. ويبدو أن المشهد يتطور في ظل خيارات صعبة تتعامل فيها الأطراف المعنية المهمة، والتي تحدد اتجاهات البوصلة مع خيارات صعبة، خاصة أن التحوّل في الرؤية أو المقاربة بشأن إيجاد قوة دولية أو متعددة الجنسيات، أو غيرها من الأفكار التي تم طرحها لن تلقى قبولاً عربياً، ولا فلسطينياً في الوقت الراهن، خاصة أن ما يُطرح في المقام الأول هو إعادة الإعمار، والتركيز على إحباط مشروع التهجير أولاً قبل أي خيار آخر، مع العمل على إبقاء الفلسطينيين على الأرض، وعدم ترحيلهم خارج القطاع في الوقت الراهن، ما يؤكد أن الحل الاستراتيجي هو التمسك بالسكان الفلسطينيين مع إعاشة القطاع، وإعادة ترميم الأوضاع الفلسطينية، والتأكيد على استئناف الحياة في القطاع في الوقت الراهن، مع توفير المتطلبات اليومية للسكان على الأرض.
وبالتالي، فإن الحديث عن الحل العربي في مواجهة الحل الدولي سيظل مطروحاً، وفي سياقات مرتبطة بالفعل بالأهداف الإسرائيلية من التعامل مع الطرح الأميركي في المقام الأول، وبعد إعادة تكرار الحديث عن مستقبل القطاع والتعامل مع الوضع الراهن ببقاء حركة «حماس»، أم إعادة تعويم دورها السياسي مجدداً. الواقع يشير إلى أنه لم يحدث أي تغيير، فلا «حماس» قبلت واقعياً بالدخول في شراكة منظمة التحرير حتى الآن، ولا حركة «فتح» طرحت الخيار البديل برغم إمكانية وجود السلطة في القطاع أيضاً، من خلال الحكومة الفلسطينية الراهنة، وهي حكومة غير فصائلية بالفعل، ما قد يطرح دوراً مباشراً إن توافرت الرؤى، واقتربت المسافات بين حركتي «حماس»، و«الجهاد»، لأن البديل ليس الانخراط في مشوار الإعمار لحاجة أي طرح عربي إلى تمويل حقيقي على الأقل في المراحل الأولى من بدء التعمير داخل القطاع، مع الحصول على ضمانات دولية بعدم قيام إسرائيل بضرب ما يمكن أن يتم تعميره لاحقاً، ولو بتحصين مشروع الإعمار بقرار دولي، والتهديد بفرض عقوبات دولية حال إقدام إسرائيل على تكرار ما قامت به مسبقاً.
في المجمل، فإن الحل العربي سيبقى الأكثر قبولاً بشرط أن يتم في سياق حقيقي متصل، ولا يتوقف عند مسار الإعمار فقط، بل يمتد إلى إيجاد بيئة مناسبة لإصلاح البيت الفلسطيني بالكامل، والانتقال التدريجي للعمل في سياق من الأولويات، مع الإقرار العربي أمام المنظومة الدولية والأميركية على وجه الخصوص بأن غزة شأن عربي يجب التعامل معه، وأن المضي في هذا المسار سيدفع بالشرق الأوسط إلى الاستقرار، وعدم إفساح المجال لكل الأطراف الدولية والإقليمية العابثة بالملف الفلسطيني أن تلتزم بما سيتم، خاصة أن توظيف الملف الفلسطيني من قبل بعض الأطراف أضر بالقضية الفلسطينية بالفعل، وأدى لمزيد من التشعبات المفصلية، كما أن الداخل الفلسطيني المعقد في القطاع، والضفة يجب أن يتجاوب مع الطرح العربي، ومن ثم، فإن أي خيار عربي سيكون هو الأمثل في مواجهة خيارات دولية قد تطرح وتفرض على الدول العربية، وعلى الفلسطينيين أنفسهم.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.