حين زرتُ اليابان للمرة الثانية، كانت على جدول الزيارة مدينة هيروشيما. كنتُ في مقعدي في «القطار الرصاصة» من طوكيو إلى هيروشيما، وكان كل شيء في الخارج يمضي سريعاً كالبرق، كانت المعالم تهرول إلى الخلف في لا زمن.. كأنها أشباح أو بقايا ظلال!
لقد فكرت طويلاً طوال ساعات الطريق.. يا إلهي.. إنني ذاهبٌ إلى فيلم وثائقي، أو فيلم سينمائي مروّع، سأرى مشاهد سابقة من «يوم القيامة».. حين ذاب (70) ألف ياباني في (5) ساعات، ثم لحق بهم (140) ألفاً في (5) أشهر، ثم لحق آخرون في سنوات تالية.
في هيروشيما.. يلتقط السياح الصور في مركز الموت السابق، وتشتهر صور «السيلفي» مع مبنى المعرض الصناعي الذي صمد وسط القنبلة، و«سيلفي» آخر مع النهر الذي سقطت فوقه الأمطار النووية، وطفتْ على سطحه آلاف الجثث.
لكن كل ألبوم «السيلفي» سرعان ما يتبدد مع زيارة متحف القنبلة النووية في هيروشيما، حيث يتمدّد الموت من الماضي إلى الحاضر، ومن الحائط إلى الحائط.
التقيتُ هناك - وبترتيب من الحكومة اليابانية - سيدة ناجية روت لي أهوال السادس من أغسطس، عن الذين تساقطت جلودهم، وعمّن رووا عطشهم من الأمطار السوداء، وعمّن فقدوا الوعى، ولمّا عادوا لم يجدوا مدينتهم!
بعد ثلاثة أيام تكررت المأساة، وسقطت القنبلة الثانية على نجازاكي، ليموت (80) ألف شخص في الحال.
في وثائقي بثته إحدى المنصات التلفزيونية، خلال عام 2024، بعنوان «نقطة تحوّل.. القنبلة والحرب الباردة» يروي الخبراء قصة مثيرة بشأن الحظ العاثر لنجازاكي، حيث كان الهدف مدينة «كوكورا»، ولكن الطيارين الذين حلّقوا فوق المدينة لإلقاء القنبلة، وجدوا أن السحب البيضاء الكثيفة والعالية تعوق الهدف، لذلك قرروا أن يتجهوا نحو الجنوب الغربي، وإلقاءها على مدينة أخرى، وهكذا فإن نجازاكي كانت سيئة الحظ بسبب سُحب كوكورا المتزاحمة يوم التاسع من أغسطس.
في اليوم التالي مباشرة، العاشر من أغسطس 1945، أرسل العميد «غروفز» المشرف على مشروع مانهاتن - الذي يديره روبرت أوبنهايمر - رسالة إلى رئيس الأركان تؤكد أن الجيش جاهز لإلقاء القنبلة الثالثة. ولمّا كان الرئيس هاري ترومان قد وصلته صور الدمار في هيروشيما ونجازاكي.. فقد قرر ألاّ تكون من سلطة العسكريين استخدام السلاح النووي، بل قرار البيت الأبيض.
لم تكن واشنطن تحتاج إلقاء القنابل النووية على اليابان من أجل استسلامها، فقد كان الاستسلام قادماً في الطريق، لكنها أرادت أن تسبق السوفييت إلى اليابان حتى لا ينتزعها الروس، كما انتزعوا نصف أوروبا أو يتقاسموها مع الولايات المتحدة كما تقاسموا برلين. كما أرادت واشنطن إظهار قوتها المفرطة أمام الاتحاد السوفييتي، وردع طموحات ستالين.
يذكر المؤرخون أن ترومان قد تأثر كثيراً بسبب صور الضحايا، وعلى الجانب العلمي تأثر أوبنهايمر «مدمِّر العوالم» بما فعل، كما ندم أينشتاين على التمهيد للطريق النووي، ورسالته إلى روزفلت لصناعة القنبلة.
في تقديري.. لا أحد في الثلاثة كان صادقاً.. لا ترومان، ولا أوبنهايمر، ولا أينشتاين. لقد أرادوا المجد والأخلاق معاً.
أراد ترومان المجد السياسي، وأراد أينشتاين وأوبنهايمر المجد العلمي.. ولكنهم إزاء يقظة الضمير المتصاعدة لدى المجتمع.. قرروا أن يبدوا الندم، ليحصلوا على المجد الأخلاقي أيضاً.
يذكرّني الثلاثة بما سمعته من وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت ماكنمارا حين التقيته مع الدكتور أحمد زويل في نيويورك، وسألته عن دوره في حرب فيتنام، وكانت إجابته: لقد أخطأنا واعتذرنا.
تتكرر الأخطاء اليوم بلا توقف. ومع كل خطأ يجري التفسير والتبرير.
بعض الأخطاء لا غفران لها.. لا يكفي أن تقول: أنا آسف.. إنني أعتذر.
*كاتب مصري