على مدار الأشهر القليلة الماضية، أتيحت لي الفرصة للتحدث في عدد من المؤتمرات حول تأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف المالية. وقد تنوعت اهتمامات الجمهور، فبعضه طلاب ومهنيون شباب قلقون بشأن فرص العمل، وبعضه من المديرين التنفيذيين في البنوك والمستثمرين المهتمين بتوقعات تكاليف الموظفين. هناك أيضاً عملاء ومنظمون يريدون معرفة كيف سيغير الذكاء الاصطناعي تجربة العملاء والحماية المقدمة لهم.
وفي بعض الحالات، يكون الهدف هو التعرف على الفرص لبيع خدمات للمؤسسات المالية القائمة أو التنافس معها. لدي إجابة واحدة لهم جميعاً: التقدم في الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الخمس الماضية سيؤدي إلى القضاء على فئات من الوظائف المالية التي كانت موجودة منذ عقود. ومع ذلك، كما هو الحال مع الابتكارات المالية السابقة، فإنه سيخلق كذلك وظائف جديدة بطريقتين مختلفتين. أولاً، ستفتح الكفاءة والقوة المحسّنة للذكاء الاصطناعي فرصاً جديدة تماماً، وثانياً، سيؤدي تحسين أداء الأنظمة المالية إلى تحفيز النمو في القطاع.
لكن حتى لو كانت النتيجة النهائية هي المزيد من الوظائف الأفضل للبشر، فإن هذا التحول سيؤدي إلى اضطراب. فالأشخاص الذين يحصلون على الوظائف الجديدة لن يكونوا بالضرورة هم نفس الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم القديمة، والشركات التي تستفيد من هذا النمو في القطاع المالي قد تكون شركات ناشئة حديثة بدلاً من المؤسسات القائمة. والرسالة الموجهة للطلاب والعمال الماليين هي الاستعداد للتغيير، والرسالة الموجهة إلى المستثمرين هي تنويع استثماراتهم بين المؤسسات المالية الكبرى الحالية والمبتكرين الواعدين.
يجب على العملاء والمنظمين توقع تغييرات في علاقتهم بالمؤسسات المالية، ويجب على الباحثين عن الفرص الاستعداد لما يشبه «اندفاع الذهب». ولأن الذكاء الاصطناعي والوظائف المالية كلاهما يشكلان فئات كبيرة، من السهل أن تفقد المناقشة تركيزها. وسأبدأ هنا بنسخة محددة: تاريخ موجز لمفهوم «اعرف عميلك». تقليدياً، كان هذا يعني أن مسؤول البنك يعرف العميل شخصياً، بما في ذلك عائلته، وأعماله، وشركاؤه في العمل.
وفي عام 1970، أصدرت الولايات المتحدة قانون السرية المصرفية، إلى جانب تشريعات مماثلة في بلدان أخرى، مما أنشأ أول وظائف متخصصة في مجال «اعرف عميلك». لم يكن هناك الكثير من الأتمتة. كان الموظفون المبتدئون يتحققون من أسماء العملاء وعناوينهم، ويزورون الشركات، ويفحصون المعلومات في السجلات الرسمية. ومع مرور الوقت، أصبح الكثير من هذا يتم عن طريق الأتمتة، لكن نمو حجم وتعقيد القطاع المالي، إلى جانب المطالب التنظيمية المتزايدة، أدى إلى زيادة القوى العاملة في مجال «اعرف عميلك»، على الرغم من أن التكنولوجيا تجعل كل عامل أكثر كفاءة. وفي التسعينيات كانت الهيئات الدولية، مثل بنك التسويات الدولية وفريق العمل المالي، هي المحرك للتنظيم، حيث حلت المعايير العالمية محل القواعد الوطنية المتداخلة.
وتغيرت عملية «اعرف عميلك» من توثيق معلومات العملاء الأساسية إلى ضمان تنفيذ إجراءات العناية الواجبة المعقدة، حيث تحول التركيز من المنتج إلى العملية. وقد تطلب هذا المزيد من الأتمتة، وتوظيف المزيد من موظفي «اعرف عميلك» المتخصصين، بما في ذلك المزيد من الموظفين الأعلى رتبة والأعلى أجراً. في العقد الأول من القرن الـ21، حوّل قانون باتريوت الأميركي عملية «اعرف عميلك» من نشاط رقابي يهدف إلى حماية البنك من الخسائر القانونية والائتمانية إلى ذراع رئيسي لإنفاذ القانون، وجمع الضرائب، ومكافحة الإرهاب، والكشف عن الفساد، وتنفيذ العقوبات. وأدى ذلك إلى زيادة هائلة في جمع المعلومات ومعالجتها، وزيادة عدد المتخصصين في هذا المجال، ممن أصبحوا الآن يشملون المحامين وخبراء تكنولوجيا المعلومات والمحللين، حيث توظف عملية «اعرف عميلك» في وقتنا الحالي ما يقرب من 10% إلى 15% من العاملين في البنوك.ومع ذلك، فإن معظم هذه الوظائف ستقوم بها قريباً أنظمة الذكاء الاصطناعي وسنحتاج إلى عدد صغير نسبياً من خبراء التكنولوجيا المتخصصين في الذكاء الاصطناعي، وليس المتخصصين في معرفة العميل إلى جانب عدد قليل من كبار الموظفين لوضع السياسات والتحقيق في القضايا الكبرى.
ومن الممكن استبدال جيوش المحققين بخوارزميات تعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وتجمع معلومات العملاء مع كل أنواع البيانات المنظمة وغير المنظمة على الإنترنت، وتنشر فهم العالم الذي طوره الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة. لا شك في أن هناك «سباق تسلح»، حيث يستغل الناس الذكاء الاصطناعي لخداع خوارزميات البنوك. لكنني أتوقع أن تنضم إلى هذه المعركة وكالات الأمن الحكومية بدلاً من الحكومات التي تتعاقد مع البنوك الفردية للقيام بالعمل. وهذا من شأنه أن يزيد الطلب على مقاتلي الجريمة، وجباة الضرائب، ورجال مكافحة الإرهاب، والجهات التنظيمية لمكافحة الفساد، ومنفذي العقوبات، إلى جانب علماء البيانات ومطوري تكنولوجيا المعلومات.. وليس المصرفيين. ماذا سيحدث لمئات الآلاف من موظفي البنوك الذين يعملون في مجال «اعرف عميلك»؟
أتمنى أن يكون لديهم جميعاً خطط بديلة. ومن المرجح أن تفتح تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المستخدمة لتنفيذ عمليات «اعرف عميلك» المزيد من الفرص بدلا من تدميرها. فمعرفة العملاء لا تقتصر على استبعاد بعض الأطراف المشبوهة فحسب، بل تساعد أيضاً على خدمتهم بشكل أفضل واكتشاف عملاء جدد. وعلى الرغم من اختلاف التفاصيل، سيتم تكرار النمط الأساسي لعملية «اعرف عميلك» في أقسام أخرى بالبنوك مثل العمليات والامتثال وإدارة المخاطر. ويتم استبدال النشاط البشري، أي معرفة موظفي البنك بعملائهم، بعملية يدوية مخصصة لموظفين أقل خبرة، تجعل الحوسبة العملية أكثر كفاءة، لكن نمو القطاع المالي وزيادة الطلب على المعلومات يحافظان على زيادة عدد الموظفين. ويتم تفويض المهام الروتينية للآلات لأنها أسرع وأرخص وأكثر دقة، ولكن لا يزال هناك حاجة للبشر لفهمهم للعالم - لمعرفة أن «ريتشارد» و«ديك» يمكن أن يكونا الاسم ذاته، وأنه لا توجد مزارع للماشية في القارة القطبية الجنوبية، وللتشكيك في موظف حكومي منخفض المستوى يطلب قرضاً لشراء يخت. سيخلق النظام المالي لعام 2030 قيمة اقتصادية أكبر بكثير من نظام 2025، وسيقدم المزيد من الفرص للوظائف الجيدة ذات الرواتب العالية. ولكن معظم وظائف 2030 ستكون مختلفة تماماً عن وظائف 2025. وستتحقق الكثير من القيمة الاقتصادية لعام 2025 بوساطة الآلات، وسيكون العمال الماليون البشريون الناجحون في 2030 هم الذين يستغلون قوة الذكاء الاصطناعي، وليس أولئك الذين يحاولون التنافس معه.
آرون براون*
*رئيس سابق لأبحاث الأسواق المالية في شركة «إيه كيو آر كابيتال مانجمينت»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»