أثبتت التجارب ووقائع التطورات السياسية منها وحتى العسكرية، أن العلاقات الدولية تكون دائماً مرهونة باستخدام «الاقتصاد» من أجل تحقيق أهداف «السياسة»، مهما كان نوعها وتوجهاتها. وهذا ما تشهده حالياً العلاقات الدولية التي تتحكم بتطورات منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد سقوط نظام الأسد، وترقب تداعيات هذا السقوط. مع الأخذ بالاعتبار التدخلات الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق تبرز أهمية تطور العلاقات السورية-الروسية، التي وصفها قائد الإدارة الانتقالية بأنها «علاقات قديمة وعميقة وذات مصالح استراتيجية مشتركة». وأضاف: «لا نريد أن تخرج روسيا، إلا بطريقة تليق بعلاقتها مع سوريا».

وقد رحب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بهذا الموقف، مشيراً إلى أن «روسيا تتواصل مع السلطات الجديدة، وتعوّل على استئناف التعاون الاقتصادي معها، وتأمل بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، العمل بشأن قضايا الاقتصاد والاستثمار».

مع العلم أن موسكو تسعى للحفاظ على الوضع القانوني للقاعدتين الجوية في اللاذقية، والبحرية في طرطوس، بشكل يضمن استمرار عملها، وفقا للاتفاقيات المبرمة مع نظام الأسد. ووفق عدد من الدراسات، قدر مجمل النفقات العسكرية الروسية في سوريا بما لا يقل عن 10 مليارات دولار. ولكن لم يعرف حجم أرباح استثماراتها، والتي تشمل قطاعات عدة، خصوصاً النفط والغاز والفوسفات. إضافة إلى اتفاقية استثمار مرفأ طرطوس التجاري لمدة 49 عاماً، وتقاسم الأرباح بنسبة 35 في المئة لنظام الأسد، مقابل 65 في المئة. ويحيط الغموض بملف عقود النفط والغاز.

وما زالت الحكومة السورية الجديدة في مرحلة تسلّم البيانات والعقود الخاصة بجميع قطاعات الدولة، حيث وقعت الشركات الروسية عقوداً واسعة النطاق خلال الفترة 2013-2024. وأهمها اتفاقية وقعت مع شركة «سويز نفت غاز» ومنحت بموجبها حق إطلاق أول عملية استكشاف قبالة ساحل مدينة طرطوس، ويغطي امتيازها مساحة 2190 كيلومتراً مربعاً، على مدى25 سنة.

وعلى رغم الاندفاعة الاستثمارية الروسية، كانت هناك عقبات جعلت كثيراً من المشاريع تبقى في مراحل التخطيط والتنفيذ المبدئية فقط، متأثرة بالعقوبات الغربية، إلى جانب العجز المالي لدى حكومة النظام الذي جعلها غير قادرة على تسديد قيمة الديون والعقود المنصوص عليها مع الشركات الروسية. ولكن بقي رهان الروس على انفراج منتظر عبر القبول بالوضع القائم في سوريا والمشاركة في إعادة الإعمار، والاستفادة من تدفق السيولة النقدية، بما ينعكس إيجاباً على عمل الشركات الروسية التي حجزت موطئ قدم لها، عبر عقود ملزمة مع النظام.

ولكن هذا الأمر لم يحصل، فلا الغرب ولا الدول التي راهنت سياسياً على التطبيع مع النظام السابق، دفعت بأموالها واٍستثماراتها إلى سوريا، وخاب أمل موسكو من رهانها على تدفق الأموال لإعادة الإعمار. ومع استعداد بعض الشركات التي لم تنفذ المشاريع المتعاقد عليها بعد، للخروج من سوريا، تبقى الاستثمارات في قطاعات كبرى، كمرفأ طرطوس، وموارد الفوسفات، والنفط والغاز. ويرى عدد من القانونيين أن الاتفاقيات التي وقعتها روسيا مع النظام السوري السابق، ما زالت سارية طالما أن أي طرف لم يطلب إبطالها، ولكن بعض الاتفاقيات يمكن إبطالها إذا كان فيها «فعل قاهر»، وهذا الأمر تقرره المحاكم المعنية.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية.