الخوف من أن الثقافة ستصبح مهجورة بسبب الذكاء الاصطناعي ليس مبالغة في تقدير التكنولوجيا، بل تقليلاً من قيمة الإنسانية.
منذ إطلاق «تشات جي بي تي» للجمهور قبل عامين، غرقنا في مزاعم متطرفة حول الفوائد والتهديدات المحتملة للنماذج اللغوية الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي. يعتقد المؤيدون والنقاد على حد سواء أن ظهور هذه التكنولوجيا يمثل نقطة تحول في تاريخ البشرية.
يدعي مؤيدو الذكاء الاصطناعي أنه سيحررنا من الأعمال الذهنية الروتينية، ما يسمح لنا بأن نصبح نسخاً أفضل من أنفسنا. في المقابل، يخشى المعارضون من تأثيراته على وظائف القطاع المعرفي وزيادة عدم المساواة، بالإضافة إلى القلق من أنه سيقضي على التفرد البشري إذا أصبحت أجهزة الكمبيوتر قادرة على إنتاج أعمال فنية مشابهة تماماً لتلك التي يخلقها البشر. ومع ذلك، بدأ الأنصار يعترفون بأن التفاؤل المفرط بشأن الذكاء الاصطناعي قد يكون مبالغاً فيه، وأنه قد يكون مجرد تحول تكنولوجي كبير بدلاً من حدث تاريخي عالمي. وقد يكون الوقت قد حان للتخلي عن المخاوف المفرطة بشأنه.
القلق الذي يُثار ليس حول الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي المحتمل نتيجة لتكنولوجيا جديدة، بل حول إمكانية أن تُظهر الآلات الرقمية يوماً ما قوة إبداعية كانت تُعتبر فريدة للبشر. رغم أن التكنولوجيا لا تزال في مراحلها الأولى وقد تحقق بعض وعودها، إلا أن زوال الثقافة الإنسانية أمر غير مرجح.
وجذور هذا القلق لا تكمن في المبالغة في تقدير التكنولوجيا بل في الاستخفاف الجذري بالإنسانية.
إحساسنا المتضائل بقدرات الإنسان لم يبدأ مع صعود الذكاء الاصطناعي، بل نشأ في الأوساط الأكاديمية قبل نصف قرن. في الستينيات والسبعينيات، سعى منظرو النقد ما بعد الحداثة إلى تفكيك مفاهيم مثل الحقيقة والجمال والإبداع البشري، التي اعتُبرت أوثاناً برجوازية.
في مقالته الشهيرة «موت المؤلف» (1967)، جادل الناقد «رولان بارت» بأن النصوص ليست نتاج إبداع فردي، بل مساحة متعددة الأبعاد تتقاطع فيها كتابات مختلفة دون أصالة حقيقية. وأكد أن الكتاب يقتصرون على التقليد، حيث إن الثقافة البشرية تشكلها قوى مادية واقتصادية غير شخصية، ما يجعل فكرة الأصالة الفنية انعكاساً للإيديولوجية الرأسمالية.
بعد عقد، نشر بيير بورديو كتابه «التمييز»، حيث اعتبر الأحكام الجمالية تعبيراً عن «رأس المال الثقافي». ورأى أن التمييزات الجمالية، مثل الفصل بين الثقافة الرفيعة وتلك التي تجذب العامة، هي أدوات للسيطرة الاجتماعية تهدف إلى تعزيز التسلسل الهرمي الطبقي، وخدمة المصالح المادية لرأس المال.
حصلت جهود هدم أسطورة الإبداع البشري على دعم غير متوقع من المادية العلمية، خاصة من الرؤية الجينية التطورية. ورغم التباين بين النقد الماركسي والمادية العلمية، اتفقت الحركتان على أن الثقافة الإنسانية تخضع لقوى نظامية وغير شخصية.
طوّر ريتشارد دوكينز مفهوماً لتفسير الظواهر الثقافية ضمن الإطار التطوري، معتبراً أن العقل يستضيف هذه الظواهر، كما يستضيف الجسم الجينات. ووفقاً لهذه الرؤية، تُعتبر الثقافة قوة مهيمنة على أفعال البشر، تماماً كما تتحكم العمليات الطبيعية بالجمال والتنوع، مما يتحدى فكرة الإنجازات البشرية الفردية أو الإلهية.
تتناول النصوص مفهوم الإبداع البشري والثقافة من زوايا متعددة، بدءاً من النظريات الإدراكية التي تصف الدماغ كخوارزمية لمعالجة المعلومات، إلى تأثيرات هذه الرؤى على الفنون والثقافة الحديثة. تم استبعاد التجربة الذاتية والإرادة الفردية لصالح رؤية الثقافة كنتاج لقوى نظامية، ما أدى إلى فقدان الأصالة.
يتناول النص تأثير العلوم المعرفية الداروينية على فهم العقل البشري والإبداع. يشير إلى أن العقول البشرية تُفسَّر كخوارزميات لمعالجة المعلومات، مبرمجة عبر التاريخ الجيني لإنتاج سلوكيات تعزز المكافآت المادية، مع استبعاد الجوانب الروحية والتجربة الذاتية. أدى هذا المنظور إلى تراجع الأصالة في الثقافة، حيث أصبحت السينما والموسيقى والأدب تكرر الأنماط القائمة بدلاً من تقديم إبداعات جديدة ومميزة.
يستعرض النص تحول الإنتاج الثقافي إلى تعكس تسطيح الإبداع، حيث أصبحت العناصر الثقافية أدوات لإعادة التدوير والتعبئة. بينما يرى بعضهم في ذلك تحرراً، فإنه يولّد شعوراً باليأس المناهض للإنسانية، مع فقدان الأمل في الإبداع الحقيقي الناتج عن الإلهام والإرادة البشرية. هذا التوجه يتجلى أيضاً في الخوف من الذكاء الاصطناعي، الذي يُنظر إليه كتهديد يُبرز هشاشة رؤيتنا للثقافة والإنسانية. يدعو النص إلى تقدير العبقرية البشرية وقوتها التحويلية وسيلة لاستعادة الثقة في الإبداع الأصيل.
يتتبع النص تطور مفهوم العبقرية عبر التاريخ، موضحاً أنها تتجاوز الذكاء البسيط. بدأ المفهوم مع سقراط، الذي رأى أن «روحاً» توجه أفعاله وتساعده على إدراك جهله، ما جعله متفوقاً فكرياً. في العصر المسيحي، ارتبطت العبقرية بالتجارب الصوفية، حيث كان يُعتقد أن الحقائق العميقة تتجاوز العقل. ومع التنوير، تخلت الثقافة عن التفسيرات الروحية لكنها استمرت في تقدير العبقرية كقوة فريدة للإبداع. وفقا لإيمانويل كانط، تنتج العبقرية الفن العظيم الذي يغيرنا، حيث يضع العباقرة قواعدهم الخاصة، مستوحين من الإلهام بدلاً من التقليد.
في عصرنا الحالي، تضاءلت مكانة العبقرية مقارنة بالماضي، حيث كانت ترتبط بشكل خاص بالفنانين والشعراء باعتبارهم حملة للحقائق الإنسانية العميقة، بينما كانت الرياضيات تُعتبر مجرد مهارة تقنية. حتى في القرن العشرين، كان يُنظر إلى عباقرة العلم مثل أينشتاين، وجودل وفون نيومان، وأوبنهايمر على أنهم يمتلكون قوى حدسية تتجاوز قدراتهم التقنية. ومع ذلك، تغيرت نظرتنا للعبقرية بسبب عوامل عدة، منها انتشار الشخصيات التي استغلت مفهوم العبقرية في الاحتيال، وزيادة وعي المجتمع بمخاطر التسامح مع السلوك المسيء من قبل الموهوبين. أصبحنا أكثر صرامة تجاه من يبتكرون قواعدهم الخاصة دون مراعاة للآخرين.
تتجاوز شكوكنا في مفهوم العبقرية الاضطرابات الحديثة، إذ تعود جذورها إلى بدايات الفكرة ذاتها. فشخصيات مثل سقراط، ورموز دينية في العصور الوسطى، وحتى كانط، واجهوا تحديات اجتماعية وشكوكاً في تمييز العبقري الحقيقي عن الدجال.
لكن في العقود الأخيرة، أصبحنا أكثر تشككاً في وجود عبقرية حقيقية، متأثرين بتغيرات ثقافية أوسع، حيث تضاءلت القيم الرومانسية القديمة للعبقرية. في المقابل، بات المصطلح مرتبطاً برجال الأعمال الذين يحققون ثروات هائلة، مثل بيل جيتس وإيلون ماسك، مما أفقده معناه الأصيل.
مع ذلك، فإن التخلي عن الإيمان بالعبقرية يحمل خسائر كبيرة، خاصة مع تصاعد المخاوف من الذكاء الاصطناعي الذي قد يظهر إبداعاً غير متوقع. الإيمان بالعبقرية يعني قبول المخاطرة بوجود الدجالين، لكنه ضروري لاستمرار الإبداع الإنساني والسعي نحو التغيير الحقيقي، بعيداً عن المعرفة الرتيبة والتفسيرات المتشائمة.
بدلاً من التخلي عن الفكرة الرومانسية التي تعتبر بعض الأشخاص استثناءات للقاعدة البشرية، قد يكون من الأفضل العودة إلى الفكرة السقراطية القديمة التي تقول بأن العبقرية يمكن أن تزور أي شخص في أي وقت. في عالمنا الحالي، حيث يهيمن الضجيج الثقافي، قد تكون الخطوة الأولى لاستعادة القدرة على الاستماع بعناية هي الاعتراف بوجود هذا الصوت، والسماح له بالتعبير عن شيء مهم.
كريستوفر بيها - كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»