تمثل مراكز الفكر ركيزة أساسية لصناعة القرار ورسم السياسات والتعامل مع القضايا والمشكلات كافة، لاسيما ما يتعلق منها بالأمن الوطني للدول وتحقيق الاستقرار والازدهار للمجتمعات، وذلك من خلال ما تقدمه هذه المراكز من دراسات واستشارات حيوية وعميقة حول القضايا الاستراتيجية كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية، ورسم مسارات معالجة التحديات والأزمات، ودعم بناء التنمية وصناعة المستقبل.

وأحد هذه التحديات الرئيسية اليوم يتمثل في خطر الجماعات المتطرفة والإرهابية، سواء على صعيد ترويج الأفكار والأيديولوجيات العنيفة والمتطرفة، أو على مستوى الممارسات الإرهابية التي تستهدف استقرار المجتمعات، مستخدمة في ذلك كل الأدوات التي تستطيع الوصول إليها، وآخرها الذكاء الاصطناعي.

وفي سياق التعاون بين مراكز الفكر لمجابهة التحديات، شارك مركز «تريندز للبحوث والاستشارات» في الدورة الثانية للملتقى السنوي لمراكز الفكر في الدول العربية، التي انعقدت تحت شعار «نحو آلية عربية لمواجهة التهديدات الناتجة عن استخدام الذكاء الاصطناعي من قِبَل الجماعات الإرهابية»، وذلك في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، إذ أبرز الملتقى أهمية التعاون بين مراكز الفكر في الدول العربية كخطوة لمعالجة القضايا المشتركة، ودور هذه المراكز في الربط بين الأمن والتنمية، وضرورة بناء «آلية بحثية عربية» تسهم في إدراك أبعاد القضايا الإقليمية والدولية.

وقدم «تريندز» في هذا الملتقى ورقة بحثية بعنوان «استخدام الذكاء الاصطناعي من قِبَل الجماعات الإرهابية.. التهديدات ودور مراكز الفكر»، إذ أضحى الإرهاب يستخدم الذكاء الاصطناعي في أفعاله العنيفة والمدمِّرة، وهو ما يتطلب وجود سياسات وخطط استباقية تراقب وتكافح العمليات الإرهابية المعززة بالذكاء الاصطناعي، مع التطورات السريعة وغير المسبوقة في التكنولوجيا، بعدما أضحى الذكاء الاصطناعي جزءاً أساسيّاً من حياتنا اليومية، لما فيه من إمكانيات وأدوات وفرص كبيرة، وأيضاً تحديات خطيرة، منها استغلال الإرهاب هذه التقنيات لزعزعة الأمن والاستقرار.

ولهذا أوصينا بتعاون مراكز الفكر مع الجهات الحكومية وشركات التقنية لتطوير حلول مبتكرة وفعّالة في التصدي لتلك التهديدات، وتوسيع دور مراكز الفكر في تحديد المسؤوليات والضمانات الأخلاقية لمنتجي أدوات الذكاء الاصطناعي، ودراسة وتحليل الظاهرة لمواجهة استغلال الجماعات الإرهابية للذكاء الاصطناعي، والإسهام في صياغة الوعي العربي، واستشراف مستقبل تلك الظاهرة وتطوير آليات المواجهة.

ولا تنفصل رؤيتنا في هذه الورقة البحثية عن الرؤية التي انطوى عليها كتابي الصادر حديثاً بعنوان: «مراكز الفكر في عالم متغير.. التحولات والأدوار والتحديات»، الذي يعمّق النظر في نشأة وتطور مراكز الفكر والبحوث، وأهمية دورها ومقارباتها البحثية في عالم تسوده الضبابية و«عدم اليقين»، وبما يسهم في الاستشراف الاستراتيجي وصناعة المستقبل، وتطوير آليات عمل مراكز الفكر مع تزايد الاهتمام الإقليمي والعالمي بهذه المؤسسات أو مصانع الأفكار كما تسمّى، لكونها حلقة وصل بالغة الأهمية بين البحوث والدراسات من جهة وعالم السياسة، الذي يواجه الاضطرابات والتغيرات المفاجئة والتحديات متعددة الأطراف والمظاهر والتأثيرات، من جهة ثانية.

وتساعد مراكزُ الفكر صانعَ القرار على اتخاذ القرار الرشيد في المستويات المختلفة، حيث توفر التحليلات والاستشارات القادرة على مواجهة الحكومات للتحديات، وإيجاد حلول للمشكلات والأزمات، كما تُسهم في الوقت ذاتِه في تثقيف الرأي العام بالقضايا السياسية المختلفة، وتوعية الشعوب بأبعاد وجوانب ما يدور حولها في الداخل والخارج، وترفد القوة الناعمة للدولة بمصادر زخم جديدة، في ظل ديناميات التغير في النظام العالمي والتحولات الإقليمية والتوترات الجيوسياسية.

إن مراكز الفكر ترفد صنّاع السياسات والمؤسسات في دول العالم بالتقديرات العلمية والعملية المناسبة لتجاوز التحديات الراهنة، وهي ركيزة أساسية في صنع القرار المبني على البحث المنهجي لبناء مستقبل قائم على المعرفة، وبينما يتطور الذكاء الاصطناعي في المجالات المختلفة، يمكن لمراكز الفكر رصد وتتبع أنماط استغلال الإرهابيين للتقنيات الحديثة، للخروج بنتائج وتوصيات تستهدف تحجيم هذه الظاهرة، والإسهام في السيطرة عليها، والحد من تأثيراتها، ووضع آلية لمواجهة التهديدات الناجمة عن استخدام الذكاء الاصطناعي من قِبل الجماعات الإرهابية المتطرفة، واستشراف مستقبل الأمن، والوقاية من مخاطر تلك الجماعات ومخططاتها التدميرية.

*الرئيس التنفيذي- مركز تريندز للبحوث والاستشارات