(34) وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النّاسِ عَيْباً * كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
يقول المتنبي، في بيته الشهير هذا، إنه لم يَرَ عيباً من عيوب الناس الممكنة، على كثرتها، أسوأ من هذا العيب.
ولا يخفى هنا، أن في استخدامه عبارة: «عيوب الناس»، تجاوزاً للكثير منها، على ما بين بعضها وبين الكمال من بونٍ شاسع، وقد اكتفى من تلك العيوب، بالعيب الأعيب، الذي لا يضاهيه عيب، ألا وهو: نقص القادرين على التمام!
و(التمام) هنا، إنما هو ذاك المنتهى المأمول، في اكتمال حالة الواحد من الأشياء، أو الأحياء...
قال تعالى: (وتمت كلمة ربك)، أي اكتمل بيانُها، وتبليغُها على أكمل وجه.
وإذا اكتمل القمرُ، وأصبحَ قُرصاً مستديراً كُلَّ الاستدارة، صارَ بَدرَ التمام.
يقول ابن نباتة، في بيتٍ من أبياته الوَلْهَى:
وبدر تمام بِتُّ ألثم رجلَه * وأكبره عن أن أقبِّل خدَّه
يقصد أن حبيبه من اكتمال جماله هو بدرُ تمامٍ.
ونقرأُ للشريف الرضي:
وَالقَوْلُ يَعْرِضُ كَالهِلَالِ فَإِنْ مَشَى* فِيهِ الفِعَالُ فَذَاكَ بَدْرُ تَمَامِ
يريد: أن القول الحسن كالهلال، فإذا أيَّدَ القولَ عملٌ جادٌ، صار ذاك القول بدراً تماماً.
كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
(نقص): نكرة، تشمل بمعناها كل نقصٍ، سواء كان نقصاً يسيراً، أو عظيماً.
إنَّ تخلي (القادرين على التمام)، عن هذا التمام، مع قدرتهم على بلوغه، من النقص المشين، حتى وإن اختاروا ذلك طواعية، فقد عُلم منهم الاقتدار على تحقيق المرتبة الفضلى، لكنهم تركوا بلوغها.
من جرَّب السمو، وتنازل عن الأرقى، فخطؤُه خطيئةٌ، وعيبُه فاحشٌ.
ومعنى البيت في (معجز أحمد): «ليس عيبٌ أقبح من الكسل».
وصدقَ، فإن ما أوقع القادرَ على بلوغ التمام في النقص، إنما هو الكسلُ. فحين أرخى أذنه لداعي الكسل، نزل به الكسل، ومنعه من بلوغ تمامٍ، هو قادرٌ على بلوغه، فهل يستحق الكسلُ، ذاك الذي يُنزلُ من سلوكِ صاحبه، أنْ يُفوِّتَ عليه بلوغ التمام؟!
قال ابن الجوزي، في (صيد الخاطر): إِنَّ «من أعمل فكره الصافي، دلَّه على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال... فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه: فلو كان يُتصوَّر للآدمي صعود السماوات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصِّرَ في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يُمْكن ذلك، فينبغي أن يطلب الممكن. والسيرة الجميلة عند الحكماء: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل».
إنه «لَيْسَ لِحَدِّ الْكَمَالِ نِهَايَةٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَمَالاً، فَفَوَاتُهُ نَقْصٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ»، وفقًا لقول تقي الدين السبكي (ت 756 هـ).
قال أبو عبدالله، غفر الله له:
يُرَكِّز المتنبي معناه في هذا البيت على ضرورة صوغ عقل الإنسان صياغةً مكتملةً، جادَّةً، تنزِعُ به نزوعات نحو الأفضل في الحالات كلِّها، وتُحيطُ بكلّ تحَدٍّ يخوضه بالجدية اللازمة، بغية تحقيقه أفضل نتيجة يمكن تحقيقها، فهو بذلك يؤكد ثبوت سلوك الجِد والاجتهاد، ليكون ضمن طباع الإنسان، وسجاياه الأصلية، وإلَّا فإن التراخي عيبٌ فادحٌ، ونقصٌ مُشينٌ، وتصرفٌ لا يليقُ بكبيرٍ.
ويعتبر بيت المتنبي من الشعر المُحرِّض على عُلوِّ الهمة، إذ عاب الشاعر أصحابَ الهمم الدنية: وهي ما تورث في النفس إعراضاً عن طلب المراتب العالية، وكسلاً وتقاصراً عن السعي إلى بلوغ الغايات.