بداية سنة جديدة عادة ما تستدعي وقفةً مع عام أو أعوام سبقتها. والحاصل عربياً أن هناك مسلسلاً طويلاً، على الطريقة المكسيكية أو التركية، كأنه بلا نهاية.

ثمة حروب لكن بلا عمل أو بحث جادّين عن سلام واستقرار، بل عن هدنات أو تسويات تؤسس لنزاعاتٍ ومآسٍ تالية. في 2024 شهدنا شعوباً تدفع ثمن صراعات إقليمية ودولية (غزّة ولبنان وسوريا واليمن)، ونهاياتٍ لمشاريع نفوذٍ (ما سمّي «محور الممانعة»)، فيما لاحت بداياتٌ لمراحل بعضٌ منها يطمح إلى «شرق أوسط جديد» (إسرائيل) يقيمه على الأشلاء والجثث وركام الأبنية وأنقاض المستشفيات والمدارس والمساجد، وبعضٌ آخر يريد استرجاع حكمةً ووطنيةً أضاعهما ليقيم مستقبلاً ما (العراق ولبنان)، وبعضٌ ثالثٌ يراكم الأماني والآمال لكنه يخشى المجهول (سوريا)، وبعضٌ أخير يتطلّع فقط إلى وقف القتل والتدمير وتفشي الجوع وسيادة التهوّر (غزّة والسودان واليمن). مَن يخوض الحروب يصنع السلام، مقولة سادت تاريخياً، ولا يبدو أنها تنطبق على الشرق الأوسط.

وتُسأل عن ذلك بعض دول المنطقة، خاصة إسرائيل، لكن تُسأل أيضاً الولايات المتحدة. إسرائيل بالتحديد، لأنها تريد أرضاً لها شعبٌ مقيمٌ عليها، أي لا بدّ من التخلّص منه، فقط لإقامة دولة متخيّلة في التاريخ ومحاطة بكثير من المعتقدات الدينية التي باتت تُترجم عملياً بقمع إنسانية الآخر وانتهاك رموزه ومقدساته. أما الولايات المتحدة فلأنها وضعت لسياستها في الشرق الأوسط ثوابت غير قابلة للتكيّف أو التغيّر، رغم أنها رائدة القوّة والعصرنة والبراغماتية.

وعدا كونها صانعة النظام الدولي الذي تراه يهتزّ ويتأرجح بين يديها، فإنها حافظت على إسرائيل ك«استثناء» وحيد من نظامها ذاك ومبادئه وقوانينه حتى لو انتهكتها جميعاً! وما قيمة هذا النظام إذا جُرّد من إنسانيته، وإذا واجه وقف إطلاق النار بـ«الفيتو» وغطّى على مجازر الإبادة، وعلى حرمان الناس من الماء والغذاء والدواء؟ ثم، كيف تبقى لهذا النظام أي فاعلية وهو يساهم في التقليل من الأمم المتحدة ونزع هيبتها، وهو الذي أقامها مرجعيةً لحلّ النزاعات، وكذلك تهميش محكمة العدل الدولية تأكيداً لغلبة القوّة على العدل؟ بعد أعوام من التوقعات بأفول العصر الأميركي وتعدّد الأقطاب، ها هي الولايات المتحدة تعاود الانطلاق من الشرق الأوسط، وليس من أوكرانيا. فهي تمكّنت من إعادة بعض القوى الإقليمية إلى حدودها وربما تنهي المراهنة عليها كأداة ضغط على جوارها العربي، وهي مهندسة التغيير في سوريا وستكون الوصيّة الخفية على مستقبلها أياً يكن شكله أو تكن أشكاله، وهي أيضاً الوصية على إعادة الحياة إلى طبيعتها في لبنان، وهي المحفّزة على إنهاض الدولة وزوال الميليشيات في العراق، وهي التي يمكن أن تساهم في إنهاء الوضع الشاذ في اليمن.. والأهمّ أنها تستطيع - إذا توفّرت لها الإرادة - صنع سلام حقيقي بين إسرائيل وفلسطين، ليس فقط لأنه ممكنٌ، بل خصوصاً لأنه وحده ما يصنع سلاماً بين العرب وإسرائيل. أما العودة إلى «صفقة القرن»، بناءً على أن قطاع غزّة بات ركاماً، فإن أجمل المنتجعات التي تقام فوقه لن تزيّن جريمة الإبادة. وأما طموحات «الشرق الأوسط الجديد» فلن تغيّر حقيقة أنه عربيٌ وسيبقى كذلك.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن