حقق دونالد ترامب فوزاً ساحقاً في انتخابات الرئاسة الأميركية، ذلك أنه لم يفز بأغلبية أصوات الناخبين الكبار فحسب، بل فاز أيضاً بالتصويت الشعبي، وهو ما لم يتأتَّ له في عام 2016، ولا لجورج بوش الابن في عام 2000، كما فاز حزبه بالكونجرس بمجلسيه. وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أنه يسيطر بالفعل على المحكمة العليا، فإنه بات الآن يتمتع بسلطة واسعة في الولايات المتحدة، ومن ثم يُتوقع لفترة ولايته أن تكون حافلة بالأحداث.
وهكذا، يعود ترامب إلى السلطة، وهو أقوى وأكثر ثقة بالنفس من أي وقت مضى. وإذا كان ترامب قد أحاط نفسه، خلال فترة ولايته الأولى، بشخصيات من الإدارة، أو من جهاز الحزب الجمهوري أكثر اعتدالاً منه، أو مَن يطلق عليهم «الكبار في الغرفة»، فإنه ينوي هذه المرة ألا يعيّن في المناصب المهمة سوى الأشخاص المرتبطين شخصياً، والذين لن يعارضوه.
وإذا كانت ولاية ترامب الأولى قد مثّلت صدمة قوية لحلفاء واشنطن الأوروبيين، فإمكانهم الآن الاستعداد للمزيد من الصدمات، لأن الوضع قد يزداد حدة، خلال فترة الولاية الثانية التي سيكون فيها الرئيس متحرراً من قيود كثيرة.
المتفائلون يقولون إن الأمر يتعلق بصحوة مفيدة للأوروبيين في نهاية المطاف، إذ بدأوا يدركون أنه لم يعد ينبغي لهم الاعتماد على الولايات المتحدة لحمايتهم، لا سيما بعد التصريحات غير الودية الصادرة من ترامب نحو الاتحاد الأوروبي. ولعل أكثر الأوروبيين تريثاً يقرّون الآن أنهم بحاجة إلى خطة بديلة لتعويض حليف لم يعد بالإمكان التعويل عليه.
ذلك أن مفهوم الحليف ليس مهماً بالنسبة لترامب، فهاجسه الأكبر هو العجز التجاري الذي تسجّله الولايات المتحدة مع دول الاتحاد، والذي وصل 208 مليار دولار من السلع في عام 2023، أو ما يعادل خُمس إجمالي العجز الأميركي في تلك السنة. والأمور بسيطة بالنسبة له: فالأوروبيون، المستفيدون من الحماية الأميركية، والذين لا ينفقون نصيبَهم الحقيقي من العبء على الإنفاق العسكري، يسرقون الأميركيين من خلال تدمير صناعاتهم.
والواقع أنه حتى أنجيلا ميركل وأورسولا فون دير لاين أدركتا الخطر، إذ دعت الأولى الأوروبيين إلى أن يأخذوا مصيرَهم بأيديهم، بينما صرحت الثانية بأنها ترأس لجنة جيوسياسية. وهكذا، لم تعد فرنسا الدولة الوحيدة التي تدعو عبثاً إلى الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية.
وصول جو بايدن إلى سدّة الرئاسة طمأن الأوروبيين: فالعودة إلى التحالف الأطلسي الكلاسيكي يناسبهم. ولم يدركوا أن بايدن، وعلى الرغم من لطفه وبشاشته، وعلى الرغم من تشديده على أهمية التضامن العابر للأطلسي، فإنه يتقاسم مع ترامب فكرة مشتركة، ألا وهي أن الأوروبيين منافسون اقتصاديون. والشاهد «قانون خفض التضخم» الذي أقرّه وكان بمثابة مضخة هائلة لجذب المصنعين الأوروبيين على حساب مواقعهم الأوروبية.
عودة ترامب يفترض على الأقل أن تمنع الأوروبيين من العيش في الوهم ومن الاستمرار في خداع أنفسهم. ذلك أن ترامب، وخلافاً لبايدن، لا يقول إن الأوروبيين حلفاء استراتيجيين، بل يتصرف حيالهم - مثل بايدن - كمنافس اقتصادي، لكن بطريقة أكثر شفافية وخشونة.
مشكلة الأوروبيين الأولى هي أنه في خضم حرب أوكرانيا، يزاد خوفهم من هشاشة وضعهم العسكري. أما مشكلتهم الثانية فهي أنه كان هناك زعيمان قويان على رأس دولتين كبيرتين خلال ولاية ترامب الأولى، هما ميركل في ألمانيا وماكرون في فرنسا. أما الآن، ولأسباب سياسية داخلية، فقد بات المستشار الألماني والرئيس الفرنسي ضعيفين، وعلى رأس دولتين تراجعت قوتهما الاقتصادية.
وفي الواقع هناك سيناريوهان محتملان: إما أن نشهد صحوة جماعية من جانب الأوروبيين، ويمكن القول في هذا الصدد إن التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، الذي تُعد بلاده أحد أكثر الدول إيماناً والتزاماً بالتحالف الأطلسي، تبعث على الأمل، إذ قال، حتى قبل انتخاب ترامب: «إن الوقت حان لكي تنضج أوروبا أخيراً وتؤمن بقوتها»، أو أن يذهب الأوروبيون، في حالة ضعف، إلى واشنطن، منقسمين وخائفين، للترافع عن قضيتهم بشكل منعزل.
مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس