إذا قضيتَ بعض الوقت في أوروبا، فمن السهل أن تنبهر بمظاهر التقدم الذي تحقق فيما يتعلق بإزالة الحدود وتنسيق اللوائح التي تحكم المواد الغذائية والمنتجات الاستهلاكية وغيرها من المواد الأساسية في الحياة اليومية. وباستثناءات قليلة، أصبحت جوازات السفر في معظم أرجاء القارة شيئاً من الماضي، كما أن العمال يتنقلون بحرية عبر الحدود. وهناك عملة موحدة تستخدمها دول منطقة اليورو العشرين، وهو ما يخلق راحةً لم يكن من الممكن تخيلها قبل 30 عاماً من الآن. ولذا، فإن قلة قليلة من الأوروبيين يتحسرون على المارك أو الفرنك أو البيزو.. حالياً.
غير أنك إذا نظرتَ عن كثب، فستجد أن ما يتراءى لنا هو قارة ما زالت متشظية ومنقسمة على نفسها بعمق، رغم سبعة عقود من السعي إلى التماسك والانسجام، ومحرومة من الاستثمارات، رغم أن اقتصاداتها الرئيسية تعاني من الركود ومكبلة باللوائح التنظيمية، بينما يزدهر منافسوها بالابتكار. والآن، وفّرت عودةُ دونالد ترامب لرئاسة البيت الأبيض جرعةً من العلاج بالصدمة للأوروبيين الذين يعانون أصلاً من اقتصادات ضعيفة وحكومات عاجزة وتيارات شعبوية متزايدة النفوذ. والسؤال الملح هو ما إن كان ترامب في ولايته الرئاسية الثانية سيحفّز أوروبا ويدفعها إلى تبني إصلاحات أم سيعجّل بتراجعها؟ 
الرئيس الأميركي المنتخَب يعارض فكرة أن أوروبا حليف راسخ لأميركا، وأن سلامتها وأمنها مرتبطان بقوة الولايات المتحدة ومكانتها. ففي سبتمبر الماضي، قال ترامب في إحدى فعاليات حملته الانتخابية في ولاية ويسكونسن: «إن حلفاءنا يعاملوننا في الواقع بشكل أسوأ من أعدائنا المزعومين»، مضيفاً: «في الجيش، نقوم بحمايتهم، ثم يعبثون بنا في التجارة. إننا لن نسمح بحدوث ذلك مرة أخرى». هذه التصريحات - وغيرها من التصريحات المشابهة - تمهّد الطريق لما وعد ترامب بأن يكون حرباً تجارية، إذ هدد بفرض رسوم جمركية شاملة تصل إلى 20 في المئة على الواردات الأوروبية.
والواقع أن هذا التصريح كان سيمثّل خبراً سيئاً حتى بالنسبة لأوروبا قوية وموحدة. ويمكن أن يكون مدمراً بالنسبة للقارة في حالتها الحالية، حيث هي ضعيفة ولا تكف عن الشكوى وغير مهيّأة للمنافسة. وخشيةَ تداعيات ذلك على الصناعات والمستهلكين، يستعد الاتحاد الأوروبي حالياً لفرض رسوم انتقامية مماثلة. لكن قلة قليلة من المراقبين يعتقدون أن الاتحاد يملك اليدَ العليا إذا حدثت هذه المواجهة.
وفي عالم عقلاني، سيكون انتخاب ترامب بمثابة دق لجرس إنذار وتنبيه لأوروبا من أجل تبني الإصلاحات اللازمة. وعلى وجه التحديد، يجب أن يحفز انتخاب ترامب الأوروبيين على زيادة التكامل والاندماج، وإزالة الحواجز أمام الاقتراض الجماعي والاستثمارات الخاصة، وهما عاملان جعلا الشركات متعطشة لرؤوس الأموال. غير أن تأثير ترامب يمكن أن يذهب في أي من الاتجاهين. إذ بدلاً من التكاتف والاندماج أكثر، قد تتصدع القارة أكثر فأكثر بين دول تناشد واشنطن الحصول على معاملة تفضيلية.
وفي ظل اقتصاد معولم يهيمن عليه العملاقان، الولايات المتحدة والصين، تمثّل حالة التشرذم والانقسام عائقاً أمام المنافسة. غير أنه عبر أوروبا ما زالت الأسواق الرئيسية منقسمة إلى حد كبير وفق خطوط وطنية. فالقطاعات الحيوية مثل الاتصالات والطاقة والخدمات المالية تعمل عبر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي باعتبارها 27 سوقاً وليس سوقاً واحدة. وعمليات الاندماج والاستحواذ في تلك القطاعات نادرة، لأن السياسيين يتشبثون بفكرة «الأبطال» الوطنيين الفرنسيين أو الألمان أو الإيطاليين.. إلخ، وليس «الأبطال» على مستوى أوروبا.
وفي هذا القرن، فاقت الإنتاجية في الولايات المتحدة، إذا قسناها بنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، إنتاجية أوروبا. كما يُعد نقص الاستثمار أحد العوامل الرئيسية وراء الضعف الأوروبي. وبعد شعورهم بالقلق لكون قرابة 320 مليار دولار من المدخرات الأوروبية يتم استثمارها سنوياً في الولايات المتحدة، ضغط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقادة أوروبيون آخرون من أجل اتحاد لأسواق رأس المال من شأنه توجيه المزيد من الأموال نحو الشركات الأوروبية. وقال في أبريل الماضي محذراً: «إن أوروبا يمكن أن تموت».
كما حذّر رئيسُ الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراجي، الذي شغل أيضاً منصب رئيس البنك المركزي الأوروبي، هذا العام من أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى 850 مليار دولار إضافية من الاستثمارات العامة والخاصة السنوية لدعم النمو واستعادة القدرة التنافسية. غير أن هذا الهدف ما زال بعيد المنال. ذلك أن الخزائن العامة استُنزفت بسبب النمو البطيء وبرامج الرعاية الاجتماعية الضخمة، ونهاية صناديق الاتحاد الأوروبي المخصصة للإنقاذ من تأثيرات جائحة كورونا. وألمانيا وهولندا، وغيرهما من الدول ذات الثقل الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، تعارض فكرة تجميع الاقتراض العام. 
كما أن الصناديق الخاصة محدودة أيضاً، ذلك أن القيمة السوقية لأسواق الأسهم الأوروبية الرئيسية مجتمعة أقل من القيمة السوقية لبورصة ناسداك، ناهيك عن بورصة نيويورك الأكبر حجماً. ولعل التفاوت الكبير بين ضفتي الأطلسي في مجال التكنولوجيا الفائقة مثالٌ بارز على ذلك. بمعنى أنه ليس لدى أوروبا شركات تكنولوجية عملاقة تنافس «آبل» أو «مايكروسوفت» أو «ميتا» أو «ألفابت».. إلخ. ومع انتشار الذكاء الاصطناعي، ما فتئت القارة تزداد تقهقراً.
وفي هذا السياق، قال إنريكو ليتا، رئيس الوزراء الإيطالي السابق الذي أصدر تقريراً رئيسياً هذا العام يحث على إنشاء سوق موحدة قوية لإنعاش آفاق أوروبا المتعثرة: «في مجال الذكاء الاصطناعي، ليس لأن الولايات المتحدة أكثر ذكاءً منا.. بل لأنهم يملكون الكثير من المال ونحن لا نملكه، لأن أسواقنا المالية مجزأة».
القيادة القوية قد توفّر بارقة أمل في أن تتمكن أوروبا من الصمود في وجه العاصفة القادمة. إلا أنها غير متوفرة بالقدر الكافي. فالائتلاف الحكومي الهش في ألمانيا انهار أخيراً في اليوم نفسه الذي أُعلن فيه ترامب فائزاً بالانتخابات الرئاسية الأميركية، ما حدا بالمستشار أولاف شولتز إلى تحديد موعد الانتخابات المبكرة في فبراير المقبل. ومن جانبه، تحول ماكرون إلى أكثر بقليل من مجرد لاعب ثانوي وسط المشهد السياسي الفرنسي المختل.
وخلاصة القول هي أن أوروبا المنهكة وغير المستقرة تواجه معركة ذات احتمالات نجاح ضئيلة. وإذا لم ترتقَ إلى مستوى تحدي ترامب، فإن آفاقها ستكون قاتمة. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيشن»