القوة ونسبيتها هي صلب علم السياسة، إذ بها يُصْنع القرار السياسي ويوضع موضع التنفيذ في شتى نواحي الحياة. وعادةً ما تكون الدولة القوية هي تلك التي تملك المقدرة على جعل الدول الأخرى تبدأ بالتفكير بها قبل اتخاذ أي قرار يلامس سياستها الخارجية وما ينعكس عليها من الداخل، وكذلك التأثير على توجهات الآخرين وسلوكهم وفرض إرادتها عليهم، أو حرمان أو اعتراض الآخرين من أن يؤثروا في إرادتها وتعطيل مصالحها.
فعندما نتحدث عن مصادر وأدوات قوة الدولة في عالمنا العربي الكبير، وندرس مفاهيم القوة في العلاقات الدولية في الكليات التخصصية العسكرية والأمنية والاستخبارية والدبلوماسية وشبه الأمنية والاستراتيجية، ثم نضمّنها كإجراءات في الخطط والاستراتيجيات التي نضعها ونعتقد أنها تستخدم لإدارة تداعيات الأحداث الخارجية على الداخل، فإن هذا سوء فهم خطير لاستخدامات أدوات القوة.
والأجدر بنا أن نطور مفاهيم مختلفة للقوة، ونتحدث عن قوة القدرة على البقاء والحفاظ على وحدة التراب الوطني واستقلاله، والقدرة على النمو، من أجل تحقيق مقومات القوة الأكثر ملاءمةً لظروفنا ومعطياتنا بعيداً عن مفهوم القوة التاريخي، وخاصةً أن بعض الشركات بل حتى الأفراد لديهم قدرة على التأثير على الآخرين أكثر من بعض دول العالم، كما يمكن للدول أن تهزم أو أن تهاجم دولاً أخرى، دون أن تلجأ للقوة العسكرية والاقتصادية، أو تعمل على فرض العقوبات والحصارات المتنوعة عليها.
القوة في العادة مرتبطة بعقيدة الدول السياسية والعسكرية والاقتصادية، وعقيدة أمنها القومي والقدرة على الحفاظ على مصادرها الأساسية، ومدى توفرها على المدى الطويل، وما هي البدائل، وهل تملك مفاتيح الحديقة الخلفية لأسرار تلك البدائل، أم هي تعتمد على غيرها ليكون لها بدائل؟
القوة في السياسة تتطلب بنية تحتية صلبة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ونسف الشللية المهنية والفكرية وجعل منظومة العمل هي من تدير الأشخاص، وإيجاد استراتيجية كبرى لتوجهات الدولة، وضمان تحقيق مستهدفات تأمين مصالحها الوطنية، ومن المعروف أنه لا توجد قوة مطلقة، وحتى أقوى وأعتى الدول لا تملك حرية العمل والتصرف بشكل مطلق، أو أنها عندما تملك ذلك فهي تتحدث عن أدوات قوة وليس أدوات استقلال، تجعلها قادرة على الحفاظ على وحدة الأرض والسيادة الوطنية، وإنْ كانت بصورة نسبية، وإلّا فما معنى أن تتوافر للدول مقومات قوة متباينة وبينها مفارقات كبيرة؟ وهو ما يقودنا نحو المفهوم الشامل لتوازنات القوى أو التوازن الاستراتيجي، أي أنها الحالة التي تتعادل وتتكافأ عندها المقدرات البنائية والسلوكية والقيمية لدولة ما منفردة، أو مجموعة من الدول المتحالفة مع غيرها من الوحدات السياسية المتنافسة معها، بحيث تضمن هذه الحالة للدولة أو لمجموعة الدول المتحالفة ردع أو مجابهة التهديدات الموجهة ضدها من دولة أخرى أو أكثر، وبما يمكّنها أيضاً من التحرك السريع وحرية العمل في جميع المجالات للعودة إلى هذه الحالة عند حدوث أي خلل فيها، بما يحقق الاستقرار، وخاصةً عند تكافؤ مجموعة من المتغيرات. وإذا استمر هذا التكافؤ عُرف بالتوازن الاستراتيجي المستقر، وإذا تغيرت حالة هذا التكافؤ سلباً أو إيجاباً سُمي بالتوازن الاستراتيجي غير المستقر، والاستنتاج بكل وضوح هو إمكانية تحقيق هذا التوازن لدى دولة منفردة بصورة كاملة معتمدة على إمكانياتها الذاتية وقدراتها الوطنية، وهو ما لا يتوفر لبعض دول المنطقة، ولذلك فإن تعاونها ووحدتها ليس خياراً للبقاء، بعيداً عن هرطقة أدوات قوة الدول غير العظمى والكبرى.
فلو توفرت القدرات السياسية والاقتصادية، والعسكرية والاجتماعية، والتقنية والثقافية لدولة أو مجموعة دول، دون توفر مرونة وحركة تمثل مجالاً حيوياً مختلفاً يلامس كينونة احتياجاتها، فإن هذا معناه تقييد حركتها. وهل تملك دولة ما منفردةً القبول أو الرفض بعيداً عن القوى الفاعلة، خاصة أن القدرة على السيطرة والهيمنة اليوم قد تتحقق دون جهد مادي عبر استخدامات القوة، والاعتماد بدلاً من ذلك على التقنيات والعلوم الحديثة، وهو ما يجعل مفهوم القوة والتوازن، يحتاج لقوة وتوازن لإعادة صياغته وفهم أبعاده الجديدة وفق معطيات الحياة الحالية والمستقبلية.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات