لا يزال مفهوم العلمانية منذ ظهوره الأول قبل قرون قليلة يدور في حلقة مفرغة، إذ لم تتفق الأمم والشعوب في عقلها الجمعي على وضع محددات ثابتة لتعريفه، أما المفرد، هنا وهناك، فمرة يقول إنها فصل الدين عن الدولة وضمان عدم تدخلها فيه، ومرة يقول إنها فصل الدولة عن الدين وضمان عدم تدخله فيها، ومرة يقول إنها خصم للدين ومنافس له على احتلال العقول، ومرات عديدة يظن أن العلمانية جزء من العملية السياسية حالها كحال الديمقراطية.

«إلياس بقطر»، القاموسي القبطي المصري، وضع العرب على مركب التوهان عندما وضع أول قاموس فرنسي-عربي وترجم كلمة «Seculier» إلى «عالماني، علماني»، وترجم وصفها بالفرنسية الذي يقول «الشخص الذي يعيش في العصر وليس له ارتباطات بالنشاطات الدينية» إلى «الكاهن الذي ما هو راهب»! هكذا!!. التقط العرب تعريب «بقطر» للعلمانية، الذي يُعد بالمناسبة، أول ترجمة لكلمة Secularism الإنجليزية وSecuularite الفرنسية إلى العربية، وراحوا منذ ذلك الحين يتفننون في استخداماتها. مرة يمدحون بها، ومرة يشتمون بها، ومرة تمر عليهم كما تمر عليهم المصطلحات السياسية الأخرى: كلمات مصمتة، خاصة بطبقة معينة، لا فائدة ولا مصلحة من التعرض لها! وهم على أية حال ليسوا نسيجاً وحدهم في هذه المسألة، فكل شعوب الأرض أخذوا هذه الكلمة بطريقتهم الخاصة وفسروها بما يتناسب مع موجوداتهم المدنية والتاريخية، بما فيهم شعوب الدول الغربية الذين وُلدت العلمانية بينهم وترعرعت في نقاشاتهم وجدلهم وأدبياتهم.

النخبة السياسية العربية تتحدث عن العلمانية على أنها واحدة من أبجديات السياسة، إذ لا يحق لرجال الدين والعالمين بشؤونه التدخل في السياسة لا من قريب ولا من بعيد. يفعلون ذلك بالطبع لتتمكن نخبهم، التي يحلو لهم تسميتها بالعلمانية، من إحكام قبضتها على مفاصل الدولة. في المقابل، يحاول رجال الدين أن يوهموا الشعوب العربية والإسلامية أن قيادة دولهم لا تكون إلا لمن يتمظهر بالإسلام شكلاً وكلاماً، إمّا عبر ادعاء انتسابه لرمز إسلامي من العصور الأولى للإسلام أوعبر انتسابه لجماعة دينية معينة. المجموعة الأولى تُبعد الدين لتحكم. والمجموعة الثانية تُدني الدين وتقربه لتحكم.

والمواطن المسكين ضائع بين المجموعتين. الدين في حقيقة الأمر هو رسالة ربانية لتنظيم الحياة على الأرض. رسالة ربانية ينبعث نورها من الإنسان نفسه لتضيء ما حوله، وتساعده على إدارة نوايا وحركات جسده والحيز المكاني الخاص الذي يمتلكه في محيط جسده فقط. أما الدولة فهي النظام الذي يحتوي الدين والجسد وحركاته ونواياه والحيز المكاني الذي يحيط به. الدولة هي النظام المدني الذي يدير العلاقة بين الدين والمكان والإنسان، من خلال نظام تعاقدي محكوم بشروط مرنة تتغير بتغير الأزمان. الدولة هي الفضاء الأخلاقي الذي يجمع الجميع وينظّم أفعالهم بما يحفظ حقوقهم جميعاً تحت عنوان واحد. لا يصح الخلط بين الدين والدولة، ولا يمكن لأي واحد منهما أن يكون مكان الآخر، فالدولة (أي دولة) هي مكون مدني (حكومة وسكان وإقليم واعتراف دولي) ينظم العلاقات ما بين موجوداته (والدين أحدها) بروح علمانية.

دول الخليج، وعت قياداتها وجُل شعوبها لهذه المسألة منذ زمن طويل، فقد تجاوزت هذه الجدليات التي لم تنته ولن تنتهي إلى الإجابة الصحيحة على تساؤلات مهمة من بينها: ماذا نريد بالضبط بالعملية السياسية: مجرد الحكم أم الوصول بالشعوب الخليجية إلى الحكم الرشيد؟ دول الخليج، وعت قياداتها، فخططت ودبرت، والنتيجة هي ما نراه اليوم من تطور وتقدم وفهم شعوبي متقدم لحقيقة علاقة السلطة بالدين والمواطن، برغم وجودها في منطقة جغرافية ملتهبة على الدوام.

*كاتب سعودي