ما نتج من القمة، وما تضمنه بيانُها الختامي، لا يدلان على استعدادٍ لاحتمال التغيير في السياسة الأميركية، بل يفيدُ أن الحلف ماضٍ في طريقه ويتجهُ إلى مزيدٍ من التصعيد، وليس التمهيد لتهدئة. . د. وحيد عبد المجيد* أضاع حلف شمال الأطلسي «الناتو»، فيما يبدو، فرصةً مناسبةً لمراجعة مسيرته الطويلة واتجاهاته ومواقفه الراهنة. اليوبيل الماسي، مثل الفضي والذهبي، من المناسبات التي تُستغلُ للتقييم والمراجعة.

ولكن قمة «الناتو» الخامسة والسبعين في واشنطن 9-11 يوليو الجاري عُقدت في ظروفٍ غير طبيعية، حيث تدورُ رحى حربين تُهدَّدان الاستقرار في العالم، ويزدادُ التوترُ في العلاقات الدولية. ويبدو أن هذه الأجواء أخذت القمةَ بعيداً عن حاجة الحلف إلى وقفةٍ ليس لمراجعة ما فات من مسيرته فقط، ولكن أيضاً للاستعداد لتطوراتٍ ربما تؤثرُ في مستقبله القريب جداً، وأهمها احتمالُ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. يعرف قادةُ دول الحلف أن هذا احتمالُ لا يُستهانُ به، وأن تحققه يعني تغييراً في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وأن الاستعداد لهذا التغيير قبل حدوثِه ضروريُ، حتى إن لم يكن أكيداً. ولعل أهم جوانب الاستعداد المطلوب هو ما يتعلقُ بكيفية التعامل مع سياسةٍ أميركيةٍ محتملة تشملُ علاقاتٍ أفضل مع روسيا، ورغبةً في وقف حرب أوكرانيا.

وقد يؤدي هذا إلى ممارسة ضغوطٍ على الحلفاء الأوروبيين للمضي في هذا الاتجاه. ولكن ما نتج من القمة، وما تضمنه بيانُها الختامي، لا يدلُ على استعدادٍ لاحتمال التغيير في السياسة الأميركية، بل يفيدُ أن الحلف ماضٍ في طريقه ويتجهُ إلى مزيدٍ من التصعيد ضد روسيا، وليس التمهيد لتهدئةٍ قد يسعى ترامب إليها حال فوزه. فقد أعاد الحلف تأكيد أن روسيا تُشكَّل تهديداً خطيراً، وأن أوكرانيا تسيرُ في «طريق لا رجعة فيه» للانضمام إلى الحلف، وأن عملية توسيع عضويته مستمرة.

وذهب بيان قمةُ الحلف إلى مدى أبعد عندما أدان «أية دولة تقدم دعماً لروسيا» في حرب أوكرانيا. وردت موسكو بتصعيدٍ مضاد عبر إعلان أنها ستفعلُ كل شيء «لكي ينتهي طريق أوكرانيا إلى الحلف باختفائها واختفائه». وربما يكون هذا تناقضاً بين إدراكٍ لابد أن يكون متوافراً لأثر احتمال فوز ترامب على توجهات الحلف الراهنة، وسلوكٍ يُعززُ هذه الاتجاهات، وكأن السياسة الأميركية الحالية ستبقى دون تغييرٍ لو عاد ترامب إلى البيت الأبيض. وإذا صح أن هذا تناقضُ، فربما يواجه الحلف مأزقاً غير مسبوق في العام المقبل. سيكون الخلاف في حال فوز ترامب غيره في خلافاتٍ سابقة أمكن تجاوزها دون أن تترك أثراً في الحلف، مثل الخلاف على حربي السويس وكوسوفا. وربما يجوز تفسير هذا التناقض بعاملين. أولُهما أن رغبة قادة الحلف في إظهار تماسكه اليوم كانت أقوى من حاجتهم إلى بحث كيفية الحفاظ على هذا التماسك بعد أشهر.

والثاني أن أجواء التوتر الدولي تدفعُ أحياناً إلى التشدد بدل المرونة، وإلى الاندفاع بدل التمهل، فيقلُ الاهتمامُ بالتخطيط السياسي استعداداً للمستقبل. وقد يُضافُ عاملُ ثالثُ ثانوي مثل التمسك بأمل استمرار السياسة الأميركية الراهنة. وربما كان عقد قمة الحلف في واشنطن تعبيراً رمزياً عن هذا الأمل.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.