هذه الأيام يزور البابا فرانسيس إندونيسيا. وقد حار المراقبون في أسباب الزيارة، باعتبار أن البلاد الإسلامية الضخمة لا تحتوي إلا على أقلية مسيحية صغيرة، بيد أن المستغربين لا يلاحظون أنّ البابا منذ اعتلائه السدة البابوية عام 2013 أعلن عن اعتناقه سلوكيات الحوار الذي له ثلاثة موضوعات رئيسة: التسامح والمحبة والسلام.

وهكذا فهو حوارٌ ليس موضوعه العناية بالجماعات المسيحية الكاثوليكية في العالم فقط؛ بل وبتطوير سلوكيات دينية عالمية تُحلُّ السلام بين أتباع الديانات، وتدفع للعناية من جانب المؤمنين بمشكلات العالم بعامة، وتنادي كبار العالم للخروج من التوترات والحروب.

في رسائل البابا السنوية هناك عناوين كبيرة كل عام، من مثل المحبة والسلام والتسامح والتضامن. وقد تدخل بنفسه لمصلحة هذه العناوين في مواطن المشكلات، فمضى إلى بنجلاديش لزيارة مخيمات اللاجئين الروهينغا، الذين تهجروا من ميانمار المجاورة. وفي بياناتٍ متلاحقة دعا الأوروبيين لاعتناق قيم الضيافة والجوار تجاه المهجرين والمهاجرين إلى القارة العريقة. وكان ديدنه تكرار العبارة الواردة في الكتب والكتابات المقدسة للأديان كلها: أحِبّ لأخيك ما تحبه لنفسك. ومع أنّ البابا لم يخصّ دولةً أو أمةً بالاهتمام، فلا شكّ أنه برزت لديه اهتمامات بارزة بالسلام مع الإسلام.

كان زميله الراحل هانز كينغ يقول: لا سلام في العالم إلا بالسلام بين الأديان ولا سلام بين الأديان إلا بالالتقاء على قيم أخلاقية جامعة. وأبرز مبادراته لهذه الجهة وثيقة الأخوة الإنسانية التي أصدرها مع شيخ الأزهر عام 2019 من أبوظبي بدعوةٍ من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله. وقد صارت الوثيقة عالميةً بتبنّي الأمم المتحدة لها بمساعي دولة الإمارات ودبلوماسية السلام التي تعتنقها.

زار البابا فرنسيس من الدول الإسلامية مصر (مرتين) والمغرب وتركيا والإمارات والآن إندونيسيا. وكان همُّه في الدول التي زارها، وفي البيانات والإعلانات السنوية التي يصدرها أن تلتزم الديانات الكبرى بخاصة الديانات الإبراهيمية بسياسات الانفتاح النابعة من قيمها الأساسية، وأن تكون لذلك نتائج ملموسة في المجتمعات المتنوعة في التكوين والعيش. في زيارته الحالية بإندونيسيا ألقى كلمةً تذكّر ببنود «وثيقة الأخوة» بأبوظبي. فهي تتضمن سرداً للمشكلات العالمية الكبرى، ودعوة للمؤمنين للاهتمام والالتزام، واستحثاث الجمهور للسير في قيم السلام الديني من طريق الحوار والصيرورة إلى سياسات للمجتمعات والدول. فالعناية الإلهية التي تعتقد بها الأديان شاملة، ولا تستثني أحداً، كما أنه لا سبيل إلى إحقاقها إلاّ بالحوار والمبادرة، واعتبار المحبة قلب الإيمان الديني. قال البابا إنّ الأحوال العالمية لا تبعث على التفاؤل، والنزاعات الناشبة تُلهي عن الانصراف لمعاجلة القضايا الإنسانية الكبرى، ومنها البيئة والمجاعات والأمراض المزمنة والهجرة والتهجير، وهذا الظلم الفادح النازل بالطفولة المعذبة، والتي يحرمها الاضطراب من الحياة العزيزة والتعليم والاستقرار في الأوطان. مضى على البابا في كرسي البابوية ما يزيد على العقد من الزمان.

وقد قام البابا خلالها بزهاء الأربعين رحلة وزيارة في سائر القارات. وقال إنه مقصّر تجاه أفريقيا، ومشكلات الشرق الأوسط والأراضي المقدسة التي تفتقر للسلام. قال في إندونيسيا، إنّ أخلاق المؤمنين هي أخلاق الثقة والتضامن، ولن يخذل الله استغاثات المستضعفين والمعذَّبين في سائر أنحاء المعمورة.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.