الانتخابات الأوروبية الأخيرة كشفت حجم الخطر الذي يواجه فكرة الاتحاد الأوروبي نفسه، كمنظومة قامت على أسس اقتصادية وتبلورت قيمُها الاجتماعيةُ والإنسانية مع مرور الزمن وعلى نار هادئة لتنضج تلك القيم في تجليها الإنساني الذي تعرض لأكثر من اختبار في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الانزياح في المزاج العام الأوروبي نحو اليمين له دلالاته التي قد لا يكون أثرها سريعاً ومباشراً على سياسات الاتحاد الأوروبي، لكنه سيبدأ بالتغلغل تدريجياً في تلك السياسات التي قد تتأثر خصوصاً فيما يتعلق بشؤون دول الاتحاد نفسها، وفيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والهجرة والاندماج.

كانت أوروبا عموماً خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية الأكثرَ تسامحاً في قضايا الهجرة، مع تقييدها بقوانين سيادية مشروعة تتعلق بالاندماج الاجتماعي والاقتصادي، مما يعني أن المهاجر مطالب لاستكمال مواطنته بأن يندمج اجتماعياً عبر متطلب تعلم لغة البلد الذي يهاجر إليه، والتعلم هنا لا يقتصر على الحوار اليومي العادي بقدر ما يجب أن يعين في اللغة على فهم القوانين والأنظمة والالتزام بها، بما يكفي لدخول سوق العمل وتقديم الحقوق الضريبية لمدة زمنية محددة تجعل المتقدمَ لنيل المواطَنة مؤهلاً للحصول عليها بعد أجل زمني محدد.

ومع مرور الوقت، كانت هناك طرق التفافية على القوانين التي تنظِّم الهجرةَ، خصوصاً في دول الرفاه الاجتماعي التي تعتمد على صناديق تكافلية ثرية تمنع الوقوع في دائرة الفقر، واستطاع كثير من مهاجري بلدان العالم النامي أن يجدوا الثغرات، وهي كثيرة، في الأنظمة التي تحكم الهجرة والإعانات المالية، وهو ما كان على الدوام مثارَ جدل وخلاف بين الأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

وكانت الاقتصادات الأوروبية بكامل عافيتها وقادرة على تحمل تلك الالتفافات إلى حد معين، مما جعل اليمين غير قادر على اختراق حاجز الأصوات الكافي للتأثير على سياسات الهجرة المرنة، وكذلك الشأن بالنسبة للسياسات الاقتصادية المنفتحة على تقديم المعونات لطالبي الهجرة إلى جنة الأحلام من دون جهد كبير في العمل ودون اضطرار للاندماج الاجتماعي.

وجاءت جائحة كورونا، لتضربَ الاقتصاديات الأوروبية بشكل قاسي تحمّلته معظمُها ببرامج طوارئ استنزفتها، لكنها عبَرت بفضلها مرحلةَ الجائحة، وقد خرجت منها متعبةً ومنهكةً. ثم جاءت أزمة الحرب في أوكرانيا، والتي كان أثرها كبيراً من الناحية الاقتصادية، خصوصاً مع عملية الاختناق جراء محدودية مصادر استيراد الغاز الطبيعي وما صحِب ذلك من اضطراب في سلاسل التزويد والتوريد. تلك كانت الثغرة المطلوبة ليدخل اليمين المتشدد إلى المزاج العام الذي بدأ يشعر بالضيق في معيشته اليومية، تحت وطأة متطلبات اقتصادية ثقيلة تزداد يوماً بعد آخر، وتضخم مالي أخل بتوازنات معيشة الأوروبيين.

وبدأت الأسئلة التي كانت لا تظهر بالظهور علناً، وبدأ اليمين الأوروبي من خلال أحزابه الأكثر تشدداً في عمليات الاستقطاب الذكي المبني على معيشة المواطن الأوروبي، وتم استغلال الإعلام لطرح الحوارات التي تدور بين الناس وتحمل أسئلتَهم حول الاقتصاد وثغراته.. وكان الهدف الأسهل دوماً هو ملف الهجرة والمهاجرين. هذا أحد جوانب التأثير القادم في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، وقد يكون الأكثر بروزاً وتأثيراً على المدى القريب.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا