كان يسمى أرض السواد، وأرض الرافدين، وأرض الحضارات، وأرض الخيرات.. حيث المياه العذبة والأرض الخصبة وواحات النخيل والمزارع والبساتين. ومنذ القدم كانت أرض الرافدين موئلاً لأقدم الحضارات الإنسانية؛ فتاريخ الحضارات البابلية والأكدية والسومرية يعود إلى ما يقرب من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد أي إلى السبعة آلاف عام قبل الآن.

وعلى مدى هذا التاريخ الممتد، أوقد أبناء الرافدين جذوةَ الحضارة الإنسانية؛ فهم أول من اخترع الكتابة التي سميت بالكتابة المسمارية، وهم أول من اخترع العجلة، وأول من سنَّ القوانين كشريعة حمورابي وشريعة أورنمو، وهم أول من قسم اليوم إلى ساعات والساعة إلى دقائق، وهم أول من سمّى أشهر العام، وأول من اكتشف الأبراج السماوية، وأول من أسس مدرسةً في التاريخ إذ كانت المعابد مكاناً لتعليم الأطفال القراءة والكتابة كي يعملوا على تدوين واردات المعابد.

ولبابل جنانها التي اعتبرت من عجائب الدنيا السبع، ولسومر أقدم ملحمة شعرية في التاريخ هي ملحمة كلكامش، وأول شاعرة في التاريخ هي أنخيدوانا. وفي العصر الإسلامي كان العراق مرتكزاً للفتوحات الإسلاميةِ شرقاً وغرباً، وفي العصر الأموي بالخصوص أصبح منابرَ للعلوم والآداب ومدارس للفقه وعلوم الدين.. واستمر هذا النهوض الثقافي والعلمي إلى العصر العباسي، فكان هارون الرشيد يخاطب الغيمة: «أنّى تذهبين فخراجك يعود لي»، وكان المأمون بعده يشتري الكتب بزنتها ذهباً فتشجع العلماء والكتاب والمترجمون.

وظل العراق يهب الحضارتين الإسلامية والعالمية من كنوز العلم والأدب حتى في أضعف مراحله وما مر َّ به من هيمنات أجنبية. وبعد أن تحرر العراق في العصر الحديث بدأ يبني ويعمر واهتم بالصحة والتعليم فأنشأ الجامعات ومراكز البحوث والمكتبات والمعاهد والمدارس ورياض الأطفال، ويقال إنه في سبعينات القرن الماضي أرسل العراق سبعين ألف طالب وطالبة للدراسة في دول العالم المتقدمة، وجاؤوا بشهاداتهم في مختلف العلوم والآداب وساهموا في التنمية الانفجارية التي عمت البلاد، فانتعش دخل الفرد وتم القضاء على الأمية في المدن والأرياف حتى حصل العراق على جائزة اليونسكو العالمية في مجال محو الأمية.

وعادت بغداد لمجدها القديم فكانت تزدهر بالعلوم والآداب وتستضيف العلماء والأدباء وتقيم أروع المهرجانات الشعرية والثقافية رغم التحديات الخارجية.. بغداد التي أنشدتها أم كلثوم: «بغداد يا بلد الرشيدِ/ ومنارة المجد التليدِ»، وغنتها فيروز: «بغدادُ والشعراءُ والصورُ/ ذهبُ الزمانِ وضوعه العطرُ»، وكتب لها نزار قباني: «مدّي بساطك واملأي أكوابي/ وانسي العتاب فقد نسيتُ عتابي/ عيناك يا بغدادُ منذ طفولتي/ شمسان قائمتان في أهدابي».

لكن العراق تكالبت عليه القوى الخارجية، الإقليمية والعالمية، فتعرض لمأساة ظل يعاني من آثارها القاسية. لكن قبل أن يستطيع التغلب عليها، فلن تبارح الذاكرة تلك الصور والمَشاهد التي كانت تعرضها محطات التلفاز لأيام العراقيين القاسية. أيام نتمنى أن يتغلب العراق والعراقيون على ذكرياتها، للانطلاق نحو استعادة مكانته كمهد للحضارات والعلوم، وكمركز للعطاءات العظيمة التي طالما اطلعت بها بلاد الرافدين في عصور التاريخ على مَر مراحله.

*كاتب سعودي