انتخاباتٌ هادئة مثمرة وانتقالٌ سلس للسلطة التنفيذية في بريطانيا، من «حزب المحافظين» إلى «حزب العمال». وانتخاباتٌ صاخبة متوترة في فرنسا أنتجت وضعاً غير مستقر في غياب أغلبيةٍ برلمانية ضرورية لتشكيل الحكومة واستمرارها وتحقيق الاستقرار.

ليس هذا فرقاً بين عمليتين انتخابيتين فقط، بل بين نموذجين مختلفين أيضاً. انبهر غير قليلٍ من المثقفين العرب بالنموذج الفرنسي الذي تبلور من خلال قفزاتٍ غير طبيعية، وبعضُها عنيف منذ ثورة 1789، أكثر من النموذج البريطاني الذي يُفترضُ أنه أكثر إلهاماً من حيث كونه يقومُ على الاستقرار والاعتدال والتطور الطبيعي والإصلاح التدريجي.

وعلى سبيل المثال لم يحدث تغييرٌ دراماتيكي في النظام البريطاني الذي تطور بشكلٍ طبيعي على مدى أكثر من ثلاثة قرون، بخلاف النظام الفرنسي الذي انبثق من ثورة 1789. فقد حدث فيه تغييرٌ شبه كامل خمس مراتٍ من الجمهورية الأولى عام 1794 إلى الجمهورية الخامسة الحالية عام 1958.

وربما تَفتحُ نتيجةُ الانتخابات الفرنسية البابَ أمام تغييرٍ جديد يقودُ إلى جمهوريةٍ سادسة خلال سنوات. وربما يعودُ الانبهارُ بالنموذج الفرنسي إلى أن الاحتكاك المباشر مع الغرب بدأ خلال حملة نابليون بونابرت على مصر والشام في عام 1798. كما أن البعثات التعليمية والعلمية الأولى أُرسلت إلى فرنسا في عشرينيات القرن التاسع عشر.

وكان أول كتابٍ صوَّر الحياة في الغرب عن فرنسا، وهو كتابُ رفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الصادر في عام 1834. وعندما أُثير السؤالُ عن مغزى تقدم الغرب، بدءاً من كتاب عبد الله النديم عام 1893، كانت فرنسا هي النموذج وليس بريطانيا، أو أكثر منها. ولهذا انصب اهتمامُ كثيرٍ من المثقفين وبعض السياسيين العرب على الفكر الفرنسي أكثر من الإنجليزي. ويحظى مفكرون فرنسيون من جان جاك روسو إلى جان بول سارتر بشعبيةٍ واسعة في أوساط المثقفين العرب، وتُرجمت لهم أعمالٌ عدةٌ يُعطي في بعضُها قيمةً كبيرةً للتمرد والثورة على حساب الاستقرار والاعتدال والإصلاح المدروس. وكان الاهتمامُ أقل كثيراً بمفكرين بريطانيين مُعتدلين نقدوا أفكارَ الثورة والتمرد وأعلوا من شأن الاستقرار والاعتدال، من إدموند بيرك إلى جيري فولويل.

وبالرغم من أن عوامل عدة تفسرُ تعثرَ التطور في العالم العربي واضطراب الأوضاع فيه، فإنه يصعبُ إغفال أثر النموذج الفرنسي في خلق اعتقاد سائد بأن الثورات هي التي تُحقِّقُ التغيير وتفتحُ الأبوابَ أمام التقدم. ومع مطلع خمسينيات القرن الماضي لم يعد ذلك الاعتقادُ نظرياً، بل بات واقعاً في بلدانٍ عربية يُحتفلُ الآن في بعضها بأكثر من «عيد» واحد للثورة كل عام! وما زالت خسائرُ ما أُطلق عليها في عام 2011 «ثورات الربيع العربي» مستمرةً في عددٍ من البلدان في صورة قلاقلٍ واضطراباتٍ وصراعاتٍ داخلية على نحو يُهدِّدُ مستقبلَ الدولة الوطنية فيها.

ولولا أن دولاً عربيةً وازنةً نجت من تأثير النموذج الفرنسي، وانتبه قادتُها إلى قيمة الاستقرار والاعتدال، فحققت نجاحاتٍ مشهودةً، لكان العالمُ العربي كلهُ الآن مسرحاً للعنف والاضطراب.. ولهذا ينبغي أن تكون تجاربُ مثل هذه الدول نموذجاً يُقتدى به عربياً في المستقبل.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية