ظاهرة العنصرية والتحيّز الأعمى والتفريق بين البشر على أسس دينية واجتماعية وأثنية، وقومية واقتصادية ومعرفية وجغرافية وتكنولوجية، وبحكم الانتماء لنوع بشري فرعي وإصدار الأحكام المسبقة، تنتشر بين بعض شعوب العالم، من بوابات الصناديق السوداء للمظهر الخارجي وجنس وجنسية الشخص والبيئات المغلقة التي ينتمي لها الفرد، وهو يكاد يكون من أصعب الأمور التي لم نجد لها ليومنا هذا حلاً يذكر ناجع وقابل للتطبيق بعيداً عن إلزامية التصرف بتحضر وصفي وليس بالضرورة نوعي وفقاً للقوانين، والتي تفرّق بدورها في تفاصيلها بين البشر، ويكون الإكراه على القيام بفعل أو الامتناع عنه هنا فقط محمود وضرورة ملحة لأهمية حفظ النوع واستمرارية الحياة.
تلك الأصولية القيمية بتجلياتها المختلفة ضاربة في جذور المجتمع الإنساني منذ القدم، وهي شكل من أشكال التعبير عن الانتماء لثقافة معينة وتبنّي مبادئ الوعي الأولي للإنسان، والذي يتحول مع مرور الوقت إلى نهج شعبوي لا يستطيع الشخص أن يفصل نفسه عنه إلّا بشق الأنفس، ومن ينجح في ذلك هم القلة القليلة في كل مجتمع، ولربما يكون البشر هنا ضحايا اليقين الذي يختزنه العقل الباطن أو العقل اللاوعي ويلزمهم منذ المهد إلى اللحد، ناهيك عن الخوف والتخويف الذي يمارس عليهم في ظل هيمنة مفاهيم تفكيك معتقدات موروثة لدى كل شخص، وهي ضمن أطر تجمّد الزمان ليشعر الفرد من خلالها بالأمان ويشعر في هذا السياق بالضياع متى ما انحرف عن المسار الذي ولد فيه جسدياً وعقلياً وروحياً.
قد يولد الفرد عدة مرات وبطرق مختلفة تكون ناتجة عن مدخلات متباينة شعورية أو مادية كالهجرة، أو اكتساب معارف جديدة وخوض غمار تجارب أو أفكار غير مسبوقة بالنسبة له/ لها على سبيل المثال لا الحصر.
ومن هنا جاءت فكرة الإنسان الأعلى والإنسان الأدنى وهي ممارسة مكتوبة أو غير مكتوبة في كل الحضارات التي مرت علينا، وبالتحديد عندما يتعلق الأمر بالعقل العربي وضمن فئات واسعة، فيجدر بنا القول هنا وبكل أريحية أن العقل العربي لدى بعض أفراد المجتمع العربي هو عقل مركزي يمارس على نفسه استبداداً ذاتياً ذي طابع مزدوج تحيط به حصانة هرمية الانتماء والهوية، لكون العربي والمسلم هو المعيار للآخرين، وفي طيات العقل والضمير الجمعي للفرد العربي والمسلم فهو الأشجع والأكرم والأشرف، والقائمة تطول في تبعية تمثل له أيديولوجية خاصة متأصلة في الوجدان الشعبي التاريخي. عملية التسامح لدى البعض تكتسب طابع الإطلاق والشرعية ليمر التسامح من بوابة ضيقة يهيمن عليها نهج تسامح فئوي وطائفي ومناطقي بامتياز، وأحيانا تخضع عملية الإصلاح في قبول الآخر المختلف والتسامح معه لمعايير الأصل واللون والدين وقائمة عريضة تتأثر بصراع معتقدات محتدم يغلف ممارسات التسامح، حيث يعتبره الكثيرون تفضّلاً منهم على الآخرين وكرم أخلاق يشكرون عليه، ناهيك عن مشاريع جهل وفوقية بغيضة لا يصرّح بها كما هو الحال في الغرب مثلاً حيث توجد للعصبية والعنصرية أحزاب سياسية تترأس الحكومات، ولذلك أرى الديمقراطية كأحد أدوات العنصرية النخبوية، وبالمقابل باسم الديانات والأيديولوجيات والفلسفات الإنسانية ينادي العديدون ويفخرون بمبادئ وثائقهم المقدسة، بينما أفعالهم وممارساتهم اليومية تبقى علامة استفهام كبرى!
عدم التسامح بفعل مؤامرة الزمن تحول إلى ترانيم مقدسة جعلت العقلنة إدارة لصناعة الأصنام الذهنية، التي تجد نفسها في صراع بين تهميش الآخر ورفضه، أو حتى استئصاله فكرياً في رحلة البحث عن الإنسان المفقود فينا في خضم سرديات كبرى تقصي المشككين فيها، وترفع من شأن المسلّمات النابعة من الأعراف وما هو مقبول اجتماعياً واستغل ذلك المتاجرون بالخوف والمثاليات، ولم تكن ثورة التقنيات الحديثة سوى هروب إلى الخلف للإنسان غير المتسامح، ولم يعد انخراطنا في روح ما بعد الحداثة اختيارياً بل هو حتمي الوقوع، وهو مما يتطلب التفكير الجاد في إصلاح البنية التحتية للعقل العربي كمقدمة تمهد لثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.