تعتبر الدول والمدن الساحلية من أكثر المناطق تعرضاً لمخاطر التغيرات المناخية، وبالأخص ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات، والذي يمكن أن يهدد مدناً وجزراً، بعضها مهم اقتصادياً وتجارياً واستراتيجياً للاقتصاد العالمي، كسنغافورة على سبيل المثال، وبعضها يتمتع بموقع سياحي عالمي، كجزر المالديف.

ولحسن الحظ، فإنه ما زال هناك متسع من الوقت لتدارك التداعيات المتوقعة من خلال بعض الإجراءات الحمائية وتخصيص الاعتمادات المالية اللازمة، مما سيؤدي إلى حماية هذه البلدان والمدن والجزر واستمرار ازدهارها الاقتصادي وموقعها التجاري والسياحي، حيث يمكن الإشارة إلى بعض التجارب الناجحة في هذا المجال. ففي سنغافورة تم تأسيس معهد المعلومات المائية، والذي يعتمد في عمله على البحوث والدراسات باستخدام التقنيات المتقدمة، بما فيها الذكاء الاصطناعي، لتحديد التداعيات التي ستحدث مستقبلاً للجزيرة المهمة للاقتصاد العالمي بحكم مركزها التجاري والمالي، خصوصاً وأن منطقة شرق آسيا تعتبر من أكثر المناطق عرضةً لمخاطر التغيرات المناخية.

وفي الجانب المالي تم في عام 2019 اعتماد 100 مليار دولار سنغافوري (74 مليار دولار أميركي) لحماية الجزيرة من خلال العديد من الإجراءات، كإقامة حواجز لصد المياه وزراعة أشجار بحرية لتخفيف حدة الأمواج بنسبة 75%، وفي نفس الوقت تخفيض نسبة الانبعاثات الكربونية الضارة بالبيئة.

أما في أندونيسيا فمن المقرر أن يتم في شهر أغسطس القادم تدشين عاصمة جديدة أكثر أماناً إزاء المخاطر البيئية، وذلك باعتمادات بلغت 35 مليار دولار، بدلاً من العاصمة الحالية جاكرتا التي اعتمد لحمايتها وإنقاذها من الكوارث الطبيعية، وبالأخص ارتفاع منسوب مياه البحر، مبلغ 40 مليار دولار خلال العقد القادم.

كما تدرس الفليبين اتباعَ نفس النهج بإقامة عاصمة جديدة بدلاً من مانيلا المعرّضة بدورها لأخطار التغيرات المناخية. وبالنسبة للجزر التي تزداد الخطورة حولها، فإن تجربة المالديف تشكل أهميةً على اعتبار أن 90% من جزرها أصيبت بالتآكل، كما أن 80% منها مهددة بأن تكون غير مناسبة للسكن بحلول عام 2050، وبالأخص العاصمة ماليه، إذا لم تُتَّخذ إجراءات حمائية عاجلة.. مما دفع سلطات البلاد إلى تخصيص 50% من الميزانية العامة للحماية من التداعيات المناخية، حيث بدأت في التنبيه لهذه المخاطر منذ عشرين عاماً. وقد عبَّر سكان بعض الجزر عن نيتهم الهجرةَ منها بسبب المخاطر المتوقعة. وبالإضافة إلى هذه الأمثلة، فإن هناك توجهات مماثلة في الدول الأكثر تهديداً لتداعيات التغيرات المناخية، كالصين والهند وفيتنام وهولندا التي اتخذت بدورها إجراءات مهمة لحماية سواحلها.وكما هو معروف، فإن معظم العواصم والمدن الخليجية تقع على سواحل الخليج العربي، وذلك إلى جانب عشرات الجزر الخليجية، مما يستدعي العمل على حمايتها من خلال اتخاذ العديد من الإجراءات العلمية والتقنية والمالية والبيئية.. إلخ، لتفادي أية تداعيات قد تترتب عليها عواقب اقتصادية واجتماعية.

وفي المجال العلمي التقني، فإن إقامة معاهد ومراكز بحوث بيئية خليجية مشتركة تمثل أهمية كبيرة لمعرفة التغيرات والمخاطر المتوقعة، والتي ربما تختلف من منطقة إلى أخرى، مما يتطلب أجراءات مغايرة، حيث يمكن من خلال الدراسات العلمية تحديد التوجهات اللازمة لتجنب التداعيات، كما يمكن توقيع اتفاقيات تعاون مع الدول التي تملك الخبرات والتقنيات العلمية.

ومالياً، فإنه لا بد من اعتماد المخصصات اللازمة لحماية المدن والجزر من المخاطر، كما هو الحال في بقية مناطق العالم، فهذه المخصصات السنوية ستخفف كثيراً من تكاليف المعالجة المتأخرة، والتي قد تكون باهظة وتشكل عبئاً كبيراً على موازنات الدول، على عكس الاعتمادات السنوية المتدرجة.

وأخيراً، فإنه يمكن البدء في بناء حواجز طبيعية حول المدن والجزر، بما في ذلك غرس الأشجار التي يمكنها النمو في مياه الخليج، وبالأخص أشجار القرم المنتشرة الآن في بعض السواحل الخليجية، بالإضافة إلى تطوير تقنيات الاستزراع في المياه المالحة، والتي يمكن تسخيرها وتنظيمها لتشكل حاجزاً طبيعياً وعاملاً في تحسين جودة الهواء من خلال أمتصاص ثاني أكسيد الكربون.. مما سيشكل حمايةً لهذه المدن والجزر وللبيئة ويقلل من الأعباء المالية ويساهم في حماية البنى التحتية اللازمة للنمو.

*خبير ومستشار اقتصادي