يُعَد مفهوم الرشادة (rationality) أحد المفاهيم الأساسية في نظرية صنع القرار. والقرار الرشيد هو ما يتبع الخطوات المتعارف عليها لصنع أفضل قرار ممكن واتخاذه، وهي أولاً التحديد الدقيق للموقف الذي يُراد اتخاذ القرار لمواجهته، ويتطلب هذا ثانياً توفر المعلومات الكافية للتوصل إلى ذلك التحديد.

ثم تأتي الخطوة الثالثة متمثلةً في تحديد الهدف الذي يبتغي صانع القرار ومتخذه تحقيقه في هذا الموقف. وتتمثل الخطوة الرابعة في استعراض البدائل المختلفة المتاحة لتحقيق الهدف وتقييمها انتهاءً بتحديد أفضلها، وهو عادة الأقل تكلفة والأكثر عائداً، فيكون هذا البديل الأفضل هو القرار المُتَّخَذ.

ومنذ كنت طالباً في قسم العلوم السياسية، ثم ممارساً لمهنة التدريس في هذا التخصص لمدة زادت عن نصف قرن، كانت الحكمة الشائعة هي أن النظم الليبرالية الغربية هي الأكثر رشادةً في اتخاذ القرارات، بفضل مناخ الحريات الذي يسودها، والذي يتيح حريةَ تداول المعلومات، وبفضل المؤسسات الفاعلة التي تقوم عليها هذه النظم بما يوفر نقاشاتٍ موضوعيةً وحرةً وجادةً في استعراض بدائل القرارات والمفاضلة بينها. وكانت نظم «العالم الثالث» (أو العالم النامي) تبدو عادة في الخلف من هذا المنظور.

غير أن الواقع العملي كان يشهد في بعض الأحيان قراراتٍ لا يمكن وصفها بالرشادة تصدر عن تلك النظم الليبرالية في الغرب، وتكفي الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى قرارات التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، كما هو حال التدخل الأميركي في كوبا مطلع ستينيات القرن الماضي، وفي فيتنام خلال العقد ذاته والعقد الذي تلاه، ثم في أفغانستان خلال الفترة بين عامي 2001 و2021)، وكذلك قرار غزو العراق عام 2003.. إلخ، وكلها قرارات انتهت على نحو كارثي. وقد اتسقت تلك القرارات مع مفهوم الرشادة المحدودة (bounded rationality) الذي طوّره الأميركي ذو الأصل الألماني هربرت سايمون، ومفاده أن صانع القرار ومتخذه ليست له القدرة دائماً على فهم محيطه بطريقة كاملة، حيث لا يكون بمقدوره في جميع الحالات الحصول على كل المعلومات الضرورية والكافية لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وبالتالي تكون القرارات غير مكتملة الرشادة بالضرورة.

غير أننا واجهنا في الشهرين الأخيرين (مايو ويونيو الماضيين) حالتين غريبتين يمكن وصفهما، وباطمئنان كبير، بـ«الرشادة الغائبة» إذا جاز هذا التعبير، فقد دعا كل من رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى انتخابات تشريعية مبكرة في بلده. الأول في الأسبوع الأخير من مايو بعد الخسارة الفادحة لـ«حزب المحافظين» في الانتخابات المحلية مطلع الشهر، والثاني في نهاية الأسبوع الأول من يونيو بعد الهزيمة المدوية لحزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في الأسبوع الأول من يونيو. وقد مثَّل كلٌّ من القرارين مفاجأةً تامةً لا يمكن أن ينطبق عليها ما أورده سايمون بشأن «الرشادة المحدودة»، وذلك نظراً لأن المعلومات كانت كاملةً ومؤكدةً حول تدنِّي شعبية حزب المحافظين البريطاني وحزب الرئيس ماكرون («النهضة»)، وبالتالي فقد كان أي تفكير رشيد يفضي إلى توقع خسارة محققة إن لم تكن فادحة لكلا الحزبين الحاكمين.

وقد كان الأمر كذلك بالفعل، فقد أنهت الانتخاباتُ التشريعية البريطانية المبكرة 14عاماً متصلةً من حكم المحافظين، بينما خلقت الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة مشكلةً أكيدة للرئيس الفرنسي، إذ حلّ فيها تحالفُه الانتخابي في المرتبة الثانية، بعد التحالف اليساري الذي جاء متصدراً دون أن يمتلك الأغلبية البرلمانية. وفي المقالة القادمة أتناول بإذن الله التأكيد على غياب الرشادة في القرارين، وما يفرضه من إشكاليات للديمقراطية الغربية.