لا يميل أصحاب محطات التلفزيون ومسؤولو الإعلام إلى البرامج الثقافية والمحتويات الفكرية، وهم عادةً يفضلّون «الأعلى مشاهدة»، و«الأكثر إعلاناً».. والأوسع ترويجاً وتسويقاً. وفي السنوات الأخيرة أصبحت الغاية الكبرى هى الطفو فوق زَبَد الترند.
يبرر المسؤولون الإعلاميون عدم الاكتراث بالثقافة وتنحية برامجها في أقصى الخريطة بضعف المشاهدة وانعدام العائد.
إن نسبة مشاهدي القناة الثقافية الروسية، وهي قناة أكثر من متميزة، لا تتجاوز (5%) من إجمالي المشاهدة، ونسبة مشاهدة قناة «آر تي - ARTE» الفرنسية الألمانية، وهي واحدة من أقوى القنوات الثقافية الأوروبية لا تتجاوز (3%).
تعني نسبة المشاهدة للقناة الثقافية الروسية وجود (7) ملايين مشاهد، ونسبة المشاهدة للقناة الثقافية الأوروبية تعني أكثر من (10) ملايين مشاهد، مع عدم أخذ الناطقين بغير الفرنسية والألمانية في الاعتبار.
يُضاف إلى ذلك أن مبيعات الكتب في العالم - ومعظمها في الدول المتقدمة - تصل إلى (70) مليار دولار للكتب الورقية، ونحو (20) مليار دولار للكتب الإلكترونية.. وهو ما يعني أن سوق الكتب الورقية والإلكترونية معاً، والذي يقارب المائة مليار دولار يفوق حجم العائد الإعلاني في آلاف من محطات التلفزيون مجتمعة.
قبل سنوات قام التلفزيون الفرنسي بإنتاج برنامج ثقافي شهير للإعلامي الفرنسي «برنار بيفو» الذي رحل عن عالمنا 2024. استمر عرض البرنامج ساعتين أسبوعياً في كل جمعة لمدة (15) عاماً. واستضاف البرنامج الذي حمل اسم «أبوستروف».. «فرانسوا ميتران»، و«أمبرتو ايكو»، و«كلود ليفي شترواس» و«محمد علي كلاي»، والفيلسوف الجزائري «محمد أركون»، والكاتب المغربي «محمد شكري» صاحب رواية «الخبر الحافي».. وكان عدد مشاهدي البرنامج يدور حول (6) ملايين شخص.
معضلة الإعلام الثقافي أن يواجه ضغوطاً من كل اتجاه، فأصحاب محطات التلفزيون لا يعطونه التقدير الكافي، ووكالات الإعلان تنظر له بإزدراء وسخرية، وكبار المثقفين يرونه تسطيحاً للأدب، واعتداءً على العمق الفكري اللازم، والرصانة المعرفية الواجبة. وحتى «برنار بيفو» هاجمه الكثيرون، وقال الفيلسوف دولوز: لقد حوّل الأدب إلى منوعات!
في السياق نفسه، ترى الفيلسوفة الألمانية الأميركية «حنة آرنت» في كتابها «أزمة الثقافة» أن الثقافة المعاصرة تعيش أزمة إضفاء الطابع الجماهيري عليها، حتى تكون سلعة قابلة للتسوّق. ويذهب آخرون إلى أن التلفزيون بطبيعته يتعارض مع الثقافة، حيث إنه يميل إلى الاستعراض والتسلية، ويسخّر كل طاقته لمتابعة الأحداث الجارية، ثم يغادرها إلى الأحدث.. من دون تعميق أو تأصيل.
يحسم الباحث الكندي «مارشال ماكلوهان» نتيجة الصراع في كتابه «مجرّة جوتنبرج» بانتقال الإنسان من حضارة الكتابة إلى حضارة الإعلام.
بالنسبة لي.. يبدو الأمر بسيطاً للغاية، فأعداد التوزيع، ونسب المشاهدات لا يجب أن تكون المعيار الوحيد، وإلاّ كان ذلك دعماً كبيراً لعصر التفاهة. فالنخب بطبيعتها محدودة، والمعرفة الرفيعة بطبيعتها لا تستهدف عوام الناس.
المعادلة ببساطة: مثقفون يقودون غير المثقفين، وثقافة موسوعية تمتد آلياتها من النخب إلى الجماهير، ومن المطبعة إلى الشاشة.
لا يهم كثيراً أن ينتقل الإنسان من حضارة الكتابة إلى حضارة الإنترنت.. المهم أن تحمل حضارة الإنسان معادلة البقاء: المعرفة والقيم.
*كاتب مصري