النخب السياسية في معظم دول العالم تعمل جاهدة لفك شفرات المستقبل، لكنها مهما بذلت من جهد منقطع النظير للوصول لتنبؤات مدروسة أقرب إلى الواقع، تصطدم- إنْ أردنا أن نصيب كبد الحقيقة بالغموض التي تحمله في طياتها تلك الأحداث الكونية غير النمطية، وبالتالي اتساع حيز عدم اليقين وتضارب في التفسيرات، وهو ما يحدّ من قدرتها على التنبؤ بغض النظر عن كمية البيانات المتوفرة وحداثتها ودقتها، والتقنيات والمناهج التي نسخرّها لكسر دائرة الركود في فهم وفك دهاليز المجهول، والطريقة الأكثر نجاعةً هنا لربما كانت التوجه نحو صناعة ما بعد الذكاء الاصطناعي، وتحديد ماهية الدمج بين الإنسان والآلة، وأنسنة التكنولوجيا وتعميق فجوة التهميش والتنكيل التقني بين الأمم، لكون اختراعاتنا اليوم وما هو متوقع من تطورات تعد ألغازاً، قد تفصلنا كلياً عن ماضينا.
فحاضرنا لا يعبر عن معايير ما نسميه حضارة بمفاهيمها القومية والمادية والمعنوية لفئة معينة من البشر، وما نعيشه اليوم لا يتوافق مع مفهوم الحضارة التقليدي. وكل ما ابتدعناه من مفاهيم ضاربة في الجذور التاريخية للمجتمعات البشرية غير قادر على تشخيص البناء السياسي للنظام العالمي الذي نحن بصدد خوضه. ولم تعد النظم السياسية هي التي تحدد كيف سيكون شكل العالم المستقبلي، بل وراءها منظمات ظل غير رسمية ومنظومة تقنية حديثة موازية للحكومات، وسيتبع ذلك مشاركة الشركات الخاصة في المستقبل القريب الحكومات في إدارة الدول، والتحكم بصورة مخيفة بمخرجات ومدخلات المجتمعات البشرية في المستقبل.
ومن لا يقرأ ما بين سطور الثورة التكنولوجية اليوم سيعيش غداً على هامش الحضارة الذكية، التي ستحل محل الهويات الوطنية للأمم، وتعزز الانصهار الاجتماعي بين الآلة والخوارزميات والإنسان.
فهل تنجح الحكومات في بناء شبكات الولاء للدول كشركات مساهمة بعيداً عن النخبوية السياسية؟ فالنخب المستقبلية عبارة عن بيانات وأرقام وتطبيقات وذكاء اصطناعي خارق ولن تجمعهم اللغة والقومية والدين والعادات والتقاليد والقيم... إلخ ولكن مصالح بقاء ونمو مشتركة، وإدارة ناجعة لملفات المواهب والابتكار والاختراع، كمحافظ سيادية وثروات للحكومات المستقبلية، والتي ستركز على خدمات التقنيات والتكنولوجيا متعددة الاستخدامات، ليبدأ عصر الولاءات المتغيرة مراراً وباستمرار والتي لا يجمعها ولاء جامع ضمن أطر المواطنة الإلكترونية أو الرقمية.
إذاً في ما هو قادم من سيراهن على الولاءات التقليدية سيكون متأخراً عن الركب، وهو رهان خاسر على المدى الطويل حيث ستلعب البنى الشعبية الرقمية دوراً رائداً في توجهات القوميات عابرة للحدود الجغرافية والإثنية، وسقوط النظم السياسية النمطية في صراعها مع تيارات العلوم والتقنيات المتقدمة للغاية، واستغلال الآلة عن الإنسان، وتطور مسارات إرهاب الذكاء الاصطناعي، وتنامي حقبة التجويع المعرفي والقمع المفاهيمي.
وقد بادرت الدول الأكثر تقدماً في الاتجاه نحو بناء قواعد عسكرية في الفضاء الإلكتروني، وهي مرنة وأقل كلفةً وقادرة على شل قوى المنافسين في غضون دقائق، وهزيمة الإرادة الوطنية لباقي الدول دون تدخل بشري مباشر، واختراق وعسكرة التقنيات والاكتشافات والعلوم الحديثة لإيقاع أكبر قدر من الضرر، وتغطية مساحات شاسعة دون تدخل أي فرع من أفرع الجيوش المتعارف عليها، ومن غير نشر وسائل وأفراد وتكتيكات الأجهزة الاستخبارية والأمنية في الدول المستهدفة، وفرض العقوبات الاقتصادية، وغيرها من وسائل السيطرة والهيمنة لتحقيق الأهداف المرجوة وصنع السياسات المتحيزة، ودعم هيكلة وصلاحيات ومهام كل دولة والدور الذي تلعبه في المؤسسات الإقليمية والدولية، وتشكيل جغرافيا سياسية مغايرة للواقع والمشهد العام، ويصاحب كل ذلك غزو فكري وثقافي وقيّمي واجتماعي على الأراضي الافتراضية، وقرارات غير رسمية تصدر في مجتمعات التواصل الاجتماعي أشد وطأةً وتأثيراً من القرارات الحكومية، وبعضها مدعوم من توجه حكومي أو خاص عملاق، ومعاهدات أشبه بقرار وعد بلفور الجائر ومن أقرّ ذلك الوعد المعاصر هي التكنولوجيا الحديثة المستخدمة في الحياة اليومية ومن يقف خلف الكواليس، والسؤال هنا: ما السبيل للدفاع عن النفس ضد عدو غير ظاهر وغير معروف؟
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات