هل تعلم بأن الإنسان يعجز أحياناً عن تعريف نفسه، أو حتى التعرّف على نفسه عن قرب، وقد يفضل الهروب عن الجواب.
إنسان العصر الحديث يريد أن يأكل ويشرب ويقرأ ويستمتع، لكنه يشعر دائماً بأنه ظامئ جائع، وخائف وقلق، ومن ثم يتلهف للحصول على أي شيء يخفف من كروبه وتوتره في أقصر وقت، وبأقصى سرعة ممكنة..
نأخذ أحد الأجوبة من عملاق الأدب الروسي ليو تولستوي، وهو من النبلاء، ويمتلك أراضي واسعة، وثروة طائلة وقد ضحى بكل ثروته للفقراء والمساكين والمحتاجين والمشردين، وعاش حياة الزهد.
ومن مقولاته المشهورة: «لا تُحدثني كثيراً عن الدين، بل دعني أرى الدين في أفعالك».
وقال ذات مرة: «إذا شعرت بالألم فأنت حي، ولكن إذا شعرت بألم الآخرين فأنت إنسان»، 
وأعجبني قول أحد الفلاسفة، وقد رحل عنا قريباً، وهو يفسر معنى حقيقة إقامة الصلاة، فهو يرى بأن معنى إقامة الصلاة ليس في المساجد، إقامتها الفعلية بعد الخروج من المساجد، ترى هل يحافظ المسلم على أفعالها، بعد أن انتهى من أقوالها في المساجد؟، فهذا جد قريب مما عناه تولستوي بالدين المتحرك في المجتمع، وليس المحصور بجدران المسجد أو الكنيسة أو المعبد.
الإنسان الجديد الذي ضمرت قيمه الروحية، وطمست مقاييسه الأخلاقية، وخلبت لبه الأشكال والألوان البديعة، هذا الإنسان قد أصبح «عبداً» مستسلماً لما يغرق الأسواق، كما قال عمر، رضي الله عنه «أو كلما اشتهيت اشتريت».
والمشكلة أن هذه السلع قد سيطرت على غذاء الروح والعقل، وصنعت قيماً جديدة، وخلقت سلوكيات وآثاراً مرتبطة بها.
إن الذين لا يؤرقهم مصير الإنسان ليسوا بشراً، بل هم أقرب إلى وحوش ضارية، وإذا كانت الوحوش تكف عن الافتراس عندما تسد جوعها، إلا أن هؤلاء لا يشبعون أبداً، ولا يكفون عن التخطيط والتدبير لامتصاص قدرات الإنسان، ودفعه إلى ممارسات تجلب لهم الكسب وإنْ حطمت إرادته، وسحقت حريته، وجعلت منه مدمناً.
وافتراس الإنسان على هذا النحو أبشع من افتراس قابيل أخيه هابيل، قد يكون الموت نهاية لمسيرة الآلام والعذاب، أما أن يحيا الإنسان «ألعوبة» في يد العابثين والمستغلين، أو يدور في ساقية الاستنزاف المادي والروحي.
مثل هذا الإنسان يحيا متوتراً مكدوداً، ولا يعرف الأمن والأمان الحقيقي طريقاً إلى روحه.
و للخروج من هذا المأزق وهذه الحالة، لا بد للإنسان ذاته أن يستخدم «الإنسانية لغة، ولا يتقنها إلا قليل من البشر، فهي لغة صالحة لكل زمان ومكان.
«الإنسانية» قيمة راقية وسلوك نبيل وأفعال لا تقدّر بثمن. «الإنسانية» رتبة عالية من مكارم الأخلاق يصل إليها قليل من البشر، وهي تصرف تلقائي يحمل في مضمونه الخير. كثيرون منا على قيد الحياة، لكن قليلين منا على قيد الإنسانية.
وعمودها في إتقان مهارة الحوار وفنه، كان «سقراط» يعتمد الحوار طريقاً للوصول إلى الحقيقة، ولاحظ الفيلسوف أن أحد تلامذته يعتصم بالصمت دائماً، فلا يعلق أو يبدي اعتراضاً أو موافقة، عندئذ نظر إليه «سقراط»، وصاح فيه قائلاً: «تكلم حتى أراك».
فالكلمة التي يطلقها الإنسان هي تعبير عن شخصيته وفكره وموقفه.
وإذا كان السكوت من ذهب، فإنه ليس صمتاً مغلفاً بالخوف والخنوع والسلبية، بل هو نوع من الاستماع الجيد، والتمعن والتفكير، أو عدم المشاركة في اللغو، عندئذ يكون للصمت قيمة عالية، لكن لابد وأن يعقبه إطلاق كلمة الحق أثمن من كل معادن وجواهر الدنيا.
*كاتب إماراتي