قد لا نختلف على أن الساحة الدولية شهدت منذ فبراير2022 نقطة تحول في التفاعلات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ذلك أن الأمل قد ساد بعد انتهاء تلك الحرب في عصر جديد من التوافق. وبطبيعة الحال كلنا يذكر الأفكار الساذجة لنهاية التاريخ بعد انتصار الرأسمالية على الاتحاد السوفييتي خصمها الرئيس، لكن التطورات اللاحقة كشفت عن استمرار النهج الغربي لتطويق روسيا حتى عندما كانت ماتزال تحت حكم يلتسين الموالي للغرب. وعندما تولى بوتين رئاستها تطورت الأمور وأصبحت أكثر تعقيداً، فقد بدا الرجل مصمماً على استعادة المكانة الدولية لروسيا، وحقق خطوات لافتة في هذا الصدد، وللأمانة فقد حاول في الوقت نفسه التوصل لنوع من التعايش مع الغرب، لدرجة أنه وصل لسؤال الرئيس الأميركي بِيل كلينتون أثناء زيارته لروسيا عام 2000 عن رد الفعل الأميركي في ما لو قبلت روسيا اقتراح الانضمام لحلف الأطلنطي، لكن كلينتون أجاب بإجابات مراوغة، وفي النهاية باءت محاولات بوتين بالفشل، ووصلت الأمور لدرجة احتواء حلف الأطلنطي لأعضاء حلف وارسو وبعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي بعد تفككه. ووصلت الأمور إلى حد الحديث عن انضمام أوكرانيا ذات الرمزية الخاصة لروسيا للحلف، ومن هنا اكتملت مقومات القرار الروسي بالعملية الخاصة في أوكرانيا التي جاوزت الآن السنتين عمراً، بعد أن نجح الدعم الغربي لأوكرانيا في إطالة أمد الحرب، وعندما اتضحت في الآونة الأخيرة مؤشرات التقدم الروسي على جبهة القتال بعد أن شاعت طويلاً فكرة إلحاق هزيمة بروسيا بدا تصميم الغرب واضحاً على عدم السماح بانتصار روسيا، سواء بالحديث عن تخفيف القيود على استخدام الأسلحة الغربية في العمق الروسي، أو إرسال قوات للقتال إلى جانب أوكرانيا، سواء مباشرة أو في صورة مدربين.

وقد ردت روسيا دائماً كما هو معروف بالحديث عن البديل النووي لو وصلت الأمور لهذا الحد، غير أن رد الفعل الروسي الأخير لهذه التطورات بدا أخطر في تقديري، وهو التلميح بتغيير السياسة الروسية لتصدير السلاح، بحيث تسمح بتصديره إلى مناطق في حالة حرب مع الدول التي تزود أوكرانيا بالسلاح، وقد قال بوتين في هذا الصدد ما نصه: «إذا كان أحد يعتقد أنه يمكنه تقديم أسلحة مماثلة في منطقة المعارك لضرب أراضينا... لماذا لا يكون لنا الحق في إرسال أسلحة من الطراز نفسه إلى مناطق في العالم تُوَجَّه فيها ضربات لمنشآت حساسة تابعة للدول التي تتحرك ضد روسيا؟»، وهو تلميح في منتهى الذكاء، خاصة وأنه يتسم بالغموض، ولنتصور الأسلحة الروسية الحديثة بأيدي دول ككوريا الشمالية أو دول أخرى عديدة غير صديقة للغرب، بل إن روسيا تفرض في سوريا قيوداً على تسليح واستخدام قوات الدفاع الجوي في مواجهة الهجمات الإسرائيلية المتكررة. غير أن المشكلة أن التصعيد ليس في شرق أوروبا فقط، وإنما لدينا بؤرة أخرى في الشرق الأوسط شهدت تصعيداً كبيراً، وكان الأمل معقوداً على التوصل لوقف إطلاق نار، غير أن النجاح في تحرير 4 أسرى إسرائيليين السبت الماضي لا شك عزز منطق الداعين إلى تحقيق النصر المطلق، ناهيك بالتصريحات الإسرائيلية عن عملية شاملة في لبنان، وهو ما يهدد بحرب إقليمية حقيقية، وهذه قضية تستحق نقاشاً مفصلاً.

*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة