الحياة جدلية والإنسان أداتها الرئيسة، تُرى لم سُمّي الإنسان إنساناً؟! وإحدى إجاباته، «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان».
وماذا قالت العرب بعد ذلك: أحسِنْ إلى النّاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ...فطالَما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ. نرجع إلى مصدر الثراء المعرفي لدى حضارتنا، لنستلهم منه معنى كلمة إنسان، «أنس» إنس «في كلام العرب من الإيناس، ومعناه: الإبصار. يُقال: أنَسته وأنِستِه، أي أبصرته. وقيل للإنس إنس لأنهم يؤنسون أي: يبصرون، كما قيل للجن جن لأنهم لا يُؤنَسون؛ أي لا تتم رؤيتهم. جاء في القرآن الكريم «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا»، سورة النساء الآية رقم (6)، بمعنى رأيتم، وفي قوله تعالى «آنس من جانب الطور ناراً»، أي أبصرَ، فالاستئناس في كلامِ العرب بمعنى النّظر، وإنسان العين هو ما ينظر به وهو السّواد الذي في العين. ذُكر للإنسان معنىً آخر وهو النسيان، وقد ذكر ابن منظور عن ابن عباس قوله: «إنما سُمِّي الإنسان إنساناً لأنه عهد إليه فنسي، بدليل قوله تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا) [طه: 115]، وبهذا المعنى قال الكوفيّون إنه مشتقٌ من النسيان. نقول بأن النسيان حالة طارئة على الإنسان، فإذا أصابت إنسانيته، فقد وقعت الكارثة.
كيف يصبح الإنسان في ذروة الإنسانية ومن خلالها يمارس العبودية لله سبحانه؟
عند عالِم الأندلس ابن عربي، لا يسمى الإنسان إنساناً إلا بعد أن يعامل الحجر والشجر والطير بميزان «الإنسانية» التي يجب أن تشمل كل مخلوقات الله سبحانه.
ولدى العقاد فلسفة عميقة أخرى لا تبتعد عن سلفه، عندما يقول: بأن كل مخلوقات الله فيها روح منه، فهي حية، فلو كان في بيتك شجرة أهملتها حتى تأكل نفسها، فهذا يطعن في إنسانيتك، ولو وجدت جماداً في دارك كالكرسي، وقد أسرع إليه التلف، فهو يعود إلى عدم رعايتك له حق الرعاية لأن فيها روحاً تنتظر منك تنميتها لإدامة الحياة في عروقها، وقس على ذلك بقية المواد في الكون. الحبل السري للإنسانية هو المؤانسة بالتعايش مع الآخرين، وهو أهم عامل في ارتقاء البشرية.
وما يجري اليوم في مختلف بقاع الأرض، من «غزة» المكلومة ولبنان الجريح واليمن المخطوفة والسودان الصريع وسوريا الممنوعة من حضنها العربي الأصيل، والحبل على الجرار، ضحايا قطع وريد الإنسانية جسدها الذي امتنع عن الشكوى والسهر والحمى لأخيه الإنسان.
هذا الانهماك في صناعة الموت والدمار، هل له علاقة بالحب الإنساني بالغرق في بحار الدم والدموع كي نتطهر؟!
كتب الفيلسوف الألماني «فريدريش سيبورج» منذ أكثر من (70 عاماً)، كتاباً بعنوان «استعباد الإنسان لنفسه»، وقد جاء فيه «إن الإنسان الحديث حريص على أن يكون عبداً لنفسه أو لغيره، وأنه يسعى لذلك سعياً حثيثاً، فهو لا يرى حبلاً إلا لفه حول عنقه، ولا سلسلة إلا لفها حول يده ولا يرى زجاجة سم إلا ويجري لعابه من أجلها، ذلك الإنسان الذي يدمن التدخين والمخدرات، والسياسة.. وكل إدمان معناه أنه عادة من العادات قد سيطرت علينا واستعبدتنا..»
لقد تطرق عالِم الاجتماع العراقي علي الوردي إلى أخطر داء يصيب الإنسانية في مقتل، ما يسمى العبودية الفكرية، إن الباحث المبدع يمتاز عن الرجل العادي بكونه يعترف بإطاره الفكري، ولذا فهو أقدر على مواجهة الحقيقة الجديدة من غيره.
والعجيب أن بعض الناس ينكرون وجود إطار على عقولهم، إنهم بهذا يبرهنون على تعصبهم الشديد. فكلما اشتد اعتقاد إنسان بأنه حر في تفكيره زاد الاعتقاد بعبوديته الفكرية. عالم الأفكار متغير، ومحيط الإنسانية ثابت غير متحول مهما تلاطمت الأفكار أو تطورت.
*كاتب إماراتي