يعيش الإنسان المعاصر في صراع نفسي محتدم لقبول ما يدور حوله من مظالم وممارسات جائرة من زاوية، وأن لا يستطيع فعل شيء مؤثر لإيقافها من زاوية أخرى، وفي الغالب لا يجد تفاسير وشروحات تقف خلفها أدلة دامغة في ما يتعلق بالظواهر الخارقة التي بدأت الانتشار في شتى بقاع الأرض، وبالتالي الاضطرار إلى خوض معارك لم يكن هو في الأساس جزءاً من صناعتها، ولا يملك اتخاذ قرار المشاركة فيها من عدمه، وفي الغالب يكون هو ضحيتها الرئيسية في خضم أمواج عاتية وسيول عكسية جارفة تخالف طبيعته الأولى، وما بين شعوب تحسب أنها في طريقها إلى التحكم في نواميس الكون ومعرفة أسراره، وشعوب تلاحق الركب بكل ما أوتيت من قوة، وأقوام تنفرد بالغناء المنفرد على الأطلال، وأخرى تشعر بأنها لا حول لها ولا قوة وهي تأكل وتشرب من أجل البقاء وغير معنية بما يجري في العالم من صراعات.
و نجد أن لوحة الحياة اليوم يراها البعض بألوان زاهية وآخرون لا يرون الألوان، ويعتقدون أن الألوان أسطورة اخترعها الجانب الآخر، وهو ما ينعكس على السياسة والاقتصاد والثقافة وكل مناحي الحياة في وقتنا الحاضر.
في واقع الأمر، فإن العقلانية لدى الكائن البشري مهارة مكتسبة، وفي العموم تتطلب جهوداً استثنائية للوصول إلى درجة التمكن منها والشعور بالراحة في ممارستها على مدار الساعة، لكون العوامل الأخرى المكونة للشخصية البشرية طاغية في تكوينها الاحتياجي الأساسي، وذلك ضمن ثلاثة محاور رئيسية، والتي تندرج في طياتها تفاصيل باقي الاحتياجات، وهذه المحاور الثلاثة هي الاحتياج الفسيولوجي والشعوري والنفسي، والتي تشكل تكتل القدرة على البقاء والمنافسة والتفرد والانتماء لمجموعة، وبالتالي يعتقد أن الآخر أقل منه في القيمة الخارجية وفي جوهره، وهو شعور طبيعي اجتماعياً وإن كان ليس شعوراً في جينات الفرد يولد به، بل يحتاج لمؤثرات لتحفيزه وجعله ينمو ويتحول لقناعات ومنها لمسلمات ثابتة في الذهن والكيان.
لا يزال الإنسان المعاصر يبحث تحت حفريات وأنقاض العقل التاريخي عن أجوبة لأسئلة لا توجد لها أجوبة حتى في مستقبله، وأن الثقافة الوافدة الجديدة الضاغطة والمرنة والجذابة قد تكون هي الثقافة البديلة التي سيختارها الشباب لتحديد هوية جيلهم، ومدى تأثير ذلك على الأحادية الثقافية للإنسان العاقل المعاصر والتي تتكون من خمس معطيات وهي: (1) الإيمان بعدم أهمية نموذجه الثقافي في أسلوب الحياة التي يتبناها حالياً (2) الإيمان بأنه علامة فارقة في التاريخ والتاريخ يبدأ به وما مضى مجرد أساطير تسقط أمام عظمة أبطال الجيل الحالي (3) القدرة على فرض المعايير الأخلاقية لعالم الإنترنت في العالم الواقعي والذي يشكك هو في مدى واقعيته (4) الظهور في صورة وحيدة لشكل ولون وطعم المجتمع ومؤسساته و(5) الحجاب الخفي والذي يجعل الإنسان يعتقد أنه يمثل وجهة نظر وقيم عالمية تتجاوز وتؤثر على جميع الناس التي يجب أن تتكيف ثقافياً معها، وبالتالي الحكم على ثقافة من هم ليسوا جزءاً من قريته في الشبكة العنكبوتية من خلال قيم ومعايير ثقافته السيبرانية.
ويلامس الغزو الثقافي الذكي فعلياً حياة كل أفراد المجتمع ويعيد تشكيلهم من الداخل، وهو ما يعقّد أطروحات التعايش السلمي بينهم والتسامح وقبول الآخر المختلف لكونها قيم تحتاج لعقيدة هي غائبة اليوم، ولا تستطيع وقف عمليات التغريب الإلكتروني للمجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء. فهل نستطيع أن نتخيل عالماً مليئاً بالثقافات الرقمية الأحادية المعزولة عن بعضها البعض؟! وعربياً، هل ستتخطى الأجيال المستقبلية عقبة الأحادية الثقافية في ظل غياب استراتيجيات ودراسات مطولة ترصد واقع توجه المجتمع؟ وهل سيزداد الاهتمام بعلماء وباحثي علوم النفس والاجتماع والفلسفة ومجالات الأمن الإنساني مثل الاهتمام بباقي التخصصات التي تراها بعض الحكومات تذكرتها للعالمية دون التخصصات الإنسانية الأخرى؟ وهي إحدى الفجوات المؤثرة في بناء العقل العربي الاستراتيجي والقراءة غير التقليدية للمستقبل.
*كاتب وباحث إماراتي في التعايش السلمي وحوار الثقافات