كتبتُ على هذه الصفحة في 17 أبريل الماضي عن العلاقات الروسية الصينية بمناسبة زيارة وزير الخارجية الروسي لبكين، مؤكداً على الطابع الاستراتيجي لهذه العلاقات في المرحلة الراهنة من تطور النظام الدولي، والتي لا غنى فيها لكل من روسيا والصين عن التعاون الاستراتيجي في معركتهما من أجل تأكيد البنية التعددية لقيادة هذا النظام في مواجهة الولايات المتحدة التي ما زالت تحتفظ بالمكانة الأولى عالمياً بمعايير القوة الشاملة، وإن كان منافساها الرئيسيان قد اقتربا منها على نحو لا شك أن تعاونهما الاستراتيجي سيكون عاملاً أساسياً في حسم هذه المعركة.
وجاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصين، قبل أيام من الآن، لتؤكد مجدداً الطابع الاستراتيجي لهذه العلاقات. وثمة ملاحظة بهذا الخصوص قد تكون شكلية لكنها ليست بلا دلالة، فكما كانت موسكو هي الوجهة الأولى للرئيس الصيني في مارس عام 2023 بعد إعادة انتخابه، كانت بكين أيضاً هي الوجهة الأولى للرئيس الروسي بعد إعادة انتخابه مؤخراً. ونذكر هنا أنه عندما زار الصين قبل أيام من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا (فبراير 2022) تصور البعضُ أنه يمكن أن يكون قد أحرج رئيسَها بهذه الزيارة بحيث يظهر وكأنه وافق مسبقاً على العملية. ورغم أني لستُ في موقع يمكِّنني من معرفة طبيعة ما تم تداوله في تلك الزيارة بشأن أوكرانيا، فالأرجح أن الرئيس الروسي أطلع نظيرَه الصيني في الحد الأدنى على النهج الذي ينوي اتباعه لمواجهة ما يراه خطراً على أمن بلاده. وقد أظهرت التطوراتُ اللاحقة أن الصين، وإن لم توافق على العملية الروسية فإنها لم تدنها، ولم يظهر أي مؤشر على تراجع في علاقاتها بروسيا، بل على العكس من ذلك إذ تفيد كل المؤشرات بأن الصين داعم موضوعي لروسيا في هذه المواجهة التي لا شك أن حسمها لصالحها يحقق في الوقت نفسه مصالح الصين التي تعاني من عقوبات وضغوطات أميركية عديدة.
وهكذا سارت الأمور على أفضل ما يُرام في العلاقات بين البلدين، كما أظهرت زيارة الرئيس الصيني لموسكو في مارس 2023، وكما أظهرت زيارة الرئيس الروسي لبكين منذ أيام. ويلاحظ أن الزيارة الأخيرة لم تدع مجالاً للشك في أن الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين قد أصبحت شاملة لكل أبعاد العلاقة الثنائية، السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
ومن مفارقات الواقعية في العلاقات الدولية أن العلاقات الصينية السوفييتية مرت في ستينيات القرن الماضي بمرحلة توتر ونزاع في ظل تبنيهما للأيديولوجية الماركسية، بنيما هي تمر الآن بأزهى مراحلها في ظل تباين أيديولوجي واضح بين البلدين. وستبقى أسس ازدهار العلاقات قائمة طالما أن الصراع على القمة لم يُحسم بعد. ويلا حظ أن البيان المشترك الأخير ركّز كثيراً على القضايا الثنائية، وهذا طبيعي ويتسق مع التكييف السابق للتعاون الاستراتيجي بينهما، بل إن اهتمام البيان بالقضايا الدولية ركز على تلك التي تعنيهما مباشرة كأوكرانيا وشبه الجزيرة الكورية، ولم يأت على ذكر القضايا العربية إلا تلك ذات الدلالة الخاصة لروسيا، وهي سوريا وليبيا، ولم تكن هناك إشارة لموقف تجاه ما يجري في غزة. وتثير هذه الملاحظة مجدداً الجدلَ حول طبيعة الحالة التعددية الراهنة على قمة النظام الدولي، وكيف أنها حاضرة على مستوى القضايا ذات الصلة بكبار اللاعبين الدوليين، أما الدول المتوسطة والصغيرة فعليها أن تُعنى بشؤونها حتى تتبلور معالم واضحة للنظام الدولي الجديد.

*أستاذ العلاقات الدولية -جامعة القاهرة