لكل بلد أيام يقيم فيها معارض سنوية للكتاب، وهو ما يطرح سؤالاً حول دلالة هذا الاحتفال الضخم الذي يكتسي رداء من الفخامة تخطف الألباب، كما هو شأن معرض أبوظبي للكتاب؟ لا يمكن للناظر في هذا المعرض البهي للكتاب إلا أن يتذكر أن التاريخ بدأ مع الكتابة، إلى درجة أن العلماء يتحدثون عن مرحلة من تاريخ الإنسانية غير تاريخية، لأنها عدمت الكتابة، فمع ظهور الكتابة انبثق التاريخ، ومع ظهور الكتابة انبثق الكتاب.

فعندما استجمعت الحضارةُ ذاتَها العلمية، ووجدت أن عليها أن تتخذ لتجربتها العلمية وعاء يحفظها، كان هذا الوعاء هو الكتاب. وللكتاب تاريخ طويل وطريف، إذ إن الكتاب كما نعرفه اليوم هو مولود حديث لا يتعدى قروناً قليلة بالقياس إلى الزمن الممتد في التاريخ؛ وقد عُرف هذا الوعاء الحامل للمعرفة بمسمّيات عديدة، خاصة أن الأقدمين كتبوا معارفهم على الصّخور وعلى الرّقاع، وعلى الجلود، وعلى الرّق قبل أن يكتشفوا الورق، فأنشؤوا الكراريس والكراسات، وتبع ذلك ثقافة خاصة بالكتاب، سواء من حيث المولعين به من الطبقات الاجتماعية كلها، وخاصة النّخب العلمية والسياسية، أو من حيث ارتباطه بالصّنعة، حيث تحلّق حول الكتاب النّساخون والورّاقون والمجلّدون والخطّاطون والفنّانون من المصورين والمزخرفين.

وقد تعدّدت أشكال الكتاب العربي المخطوط من الشّكل المربع إلى الشّكل المستقيم، كما تعدّدت خطوطه التي نشأت من الخط النّبطي، وتفرعت من الخط الحجازي إلى الكوفي، ثم تعددت وامتدت فروعها حتى أصبحت للخطوط مُسمّيات محلّية. ثم إن المسلمين برزوا في تقاليد صنعة الكتاب العربي الإسلامي مع ظهور القرآن الكريم، الذي اعتبر «أول مخطوط عربي كان ولا يزال أكثر النّصوص نسخاً في البلاد الإسلامية»، كما أنه «أغنى الكتب بتقاليد الصنعة التقنية والفنية من ناحية أخرى»، بتعبير فرانسوا ديروش، فقد احتفى المسلمون بكتابهم المقدس وبوؤوه الدرجة العليا في الحضور بلونيات جمالية بديعة، سواء من حيث التجليد، أو من حيث الخطوط والتزويق. كما أن القرآن الكريم احتفى كثيراً بـ«الكتاب» فترددت كلمة «الكتاب» فيه 230 مرة، بمعان ودلالات مختلفة تبرز أهمية التّقييد الذي يحفظ الآثار المنقولة في بعد فيزيقي، وبعد ميتافيزيقي أيضاً، مادام الكتاب حاضراً في اليوم الآخر شاهداً، أمام الله تعالى، على مسيرة الإنسان في هذه الحياة، ويكفي الكتاب فخراً اختيار الله تعالى مخاطبة العالمين بكتاب لا تنقضي غرائبه، وهو الأصل في نشأة العلوم في بلاد الإسلام.

إن حضور القرآن الكريم في قلب الحضارة الإسلامية، بل وإسهامه في صنع هذه الحضارة، بتشجيعه على طلب العلم، وحفظه في القراطيس، ونقله بالتعلم والتعليم كان وراء هذا الكم الهائل من الكتب المخطوطة التي تركها المسلمون، والتي لم تضاههم حضارة أخرى في عددها، ولا في تنوّع مواضيعها من العلوم النقلية والعقلية، والتي شغف بها الغرب اللاتيني في لحظة من لحظات يقظته العلمية، وعكف على ترجمتها، ودراستها، والاستفادة منها استفادة أهلته، لأن يأخذ مشعل العلم من العرب، ويستمر في حمله إلى اليوم.

إن الكتاب هو روح الحضارة، والعناية بالكتاب هو عناية بالجوهر الثّقافي والعلمي المكوّن لكل شعب من الشعوب، وإذا كان الأقدمون يعتبرون أن خير أنيس في الدنيا كتاب، فإننا اليوم نعتبر أن أفضل قطار نركبه للتقدم والتطور هو الكتاب، سواء أكان الكتاب ورقياً، أم رقمياً، مادام كلاهما يحقق كمال الإنسان، ويُحرّك رُشْد الشعوب. وبهذه المعاني نفهم جوهر هذا المعرض العالمي للكتاب.

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.