في ما مضى من حديث حول الهوية الوطنية أشرت إلى أن البنية التحتية الوطنية الاجتماعية هي أكثر العوامل تأثيراً في جعل سكان الولايات المتحدة الأميركية، وهم خليط من أجناس وأعراق وقوميات وشعوب أتت من خارج الأرض الأميركية ينظرون إلى أنفسهم بأنهم يكوّنون أمة جديدة، وهذه الكينونة هي مصدر الهوية الأساسي لمواطَنتهم الجديدة. وبهذا المعنى، خلافاً للتمييز المعتاد بين الأمة والدولة، تعتمد الأمة في هذه الحالة على وظائف الدولة تماماً. يؤكد ذلك استخدام مصطلح دولة في الإمارات، ودولة الكويت، ودولة قطر لا بمعنى قانوني خالص أو سياسي خالص، بل بالمعنى الذي يتوافق مع الدلالات الأكثر عمومية لمصطلح وطن.
تجد هذه المقولة صدى لها فيما يورده عدد من الكُتاب عن الدور التجميعي الذي تلعبه الدولة ذات المداخيل الاقتصادية والمالية المرتفعة. إن دور هذه الدولة هو تشجيع المشاركة الإيجابية في بناء الدولة ذاتها، بالإضافة إلى أدوارها الأساسية في استراتيجيات التخطيط واستغلال والمقدرات الوطنية. وفي تقديري أن الذين يحاولون إيهامنا بعدم وجود مخاطر على الهوية الوطنية يحاولون إسقاط ما حدث في تجربة الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب الحرب الأهلية الكبرى، أو في مراحل الاستقلال الأولى عند الأخذ بأخلاقية مشروع إنشاء وطن قومي عملاق، أي الحض على وتشجيع بناء وطن جديد متماسك ومتعاضد على أنقاض الفرقة التي كانت موجودة بين الشمال والجنوب.
إن محاولة الإسقاط، أو السحب هذه على دولة الإمارات تدخل فيها جوانب دحض موضوعية خاصة بها قوامها العلاقات التاريخية المتميزة بين القيادة والشعب، والنوايا الحسنة لسكان البلاد تجاه قياداتهم، والقول في هذا الإطار بأن القادة يستلهمون من هذه الوضعية والمميزات الذاتية الخاصة العِبر مدعومين باقتصاد قوي وموارد مالية مجزية لتعزيز أوضاع الدولة العامة. ما ألاحظه من الطرح القائل بعدم وجود مخاطر على الهوية الوطنية لشعب دولة الإمارات وشعوب دول مجلس التعاون بشكل عام هو وجود محاولة - وقد تكون يائسة - لتطبيق مقولات بنيدكت أندرسون حول «المجتمعات المتخيلة» أو المجتمعات التي يمكن أن تتكون نتيجة لالتقاء الثروة الاقتصادية والمالية بالتقنيات الحديثة وإسقاطها على دولة الإمارات عن طريق تصويرها بأنها «أمة» حديثة التشكل، وليست مجرد دولة - وطنية.
لكن دولة الإمارات بحد ذاتها ليست «أمة» آخذة في التشكل للتو، بل هي دولة عربية - إسلامية تنتمي إلى أمة، أي هي جزء من أمتين كبيرتين هما الأمة العربية، والأمة الإسلامية بالمفهوم الواقعي التاريخي لمعنى الأمة. لكن هذه الوضعية السياسية المتميزة، وهذا الرخاء الاقتصادي والمالي يجلب ملايين البشر من وراء الحدود من شتى أصقاع الأرض. هذه الجموع الحاشدة تريد العيش الطويل والبقاء على هذه الأرض الطيبة، وهم بذلك لا بد لهم من التعامل اليومي مع المواطنين الذي يولد التأثير والتأثر، الأمر الذي يدحض بدوره عدم جود مخاطر على الهوية والثقافة الأصلية. إن حالة الالتقاء بين القوة الاقتصادية والمالية، ومن تقنية المعلومات في دولة الإمارات ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، يضاف إلى ذلك الطمووحات اللامحدودة لقيادات وشعوب تطلع نحو المستقبل بكل ثقة، يجعل من هذه الدول الفتية متميزةً في كل شيء تقوم به، وهي تُعرف الآن بالمبادرة والقدرة على تنفيذ المشاريع الطموحة العملاقة، وهي تقوم بكل ذلك على أرض الواقع وحقاً وحقيقة وليس بشكل متخيل من حيث كونها دولاً وليست أمماً.
لذلك فإن الاستعانة بمقولة «أندرسون» ومحاولة إسقاطها على دول المجلس هي محاولة مشكوك في نجاحها. وبالنسبة لدولة الإمارات بالذات يعود السبب في ذلك إلى أن مجتمعها الأصلي جذوره قبلية راسخة وروابطه الأسرية أقوى من كل فكر يحاول غرس أفكار دخيلة علينا بأننا أمة «متخيلة» تجمع بين شتات شعوب غريبة عن بعضها لكي تشكل أمة وشعباً جديداً بعيداً عن أمته العربية وأمته الإسلامية. وعليه، فإن روابطنا الثقافية واللغوية والدينية والقبلية والعشائرية والأسرة حضرية كانت أم بدوية، تناقض الطرح التخيلي لمجتمعات بنيدكت أندرسون حول الأمة الأميركية.
*كاتب إماراتي