الاعتبارات المصلحية بين إسرائيل واليونان
تُعد المصلحة المحرك الرئيسي للفاعلين الدوليين في علم السياسة، فكما قال ونستون تشرشل: «ليس هناك أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، ولكن توجد مصالح دائمة». من هذا المبدأ يمكننا ترجمة العلاقات الإسرائيلية- اليونانية، خصوصًا مع ما شهدته من مستجدات متتالية في العقد الأخير، وما تشهده اليوم من تطورات تهدف كما يبدو إلى تأطير العلاقات بشكل جديد. لذلك، فإن ثمة أسئلة تستدعي منا الإجابة عنها لا سيما حول طبيعة هذه العلاقات وتقاطعاتها؟
وهل ستسهم التطورات الأخيرة في خلق مقاربة جديدة في علاقات البلدين؟ تاريخيًّا تعود العلاقات الإسرائيلية- اليونانية إلى عام 1949 حينما اعترفت أثينا بتل أبيب. وبالرغم من ذلك الاعتراف المُبكر، ظلت العلاقات بين البلدين باردة نسبيًّا حتى عام 1990، وذلك بسبب الخوف من الاصطفاف العربي مع تركيا في الأمم المتحدة في قضية قبرص، والهواجس من الإضرار بمصالحها الاقتصادية مع العرب إذا ما عززت علاقتها مع إسرائيل.
ولكن التحول في مسار هذه العلاقات بدأ يتضح مع بداية التسعينيات من القرن الماضي حيث شهدت الساحة الدولية تطورات مهمة، كان أبرزها انهيار الاتحاد السوفييتي الذي تبعته تحولات هيكلية في العلاقات الدولية أهمها نزوع الولايات المتحدة نحو موقع السيطرة العالمية، وغزو العراق للكويت الذي شكل جوهر التحول من الرؤية المُضادة لمقاربة السادات تجاه إسرائيل، حيث مهدت الطريق مع الأحداث الأخرى لمؤتمر مدريد للسلام، إلى تقارب العرب مع تل أبيب عبر اتفاقية أوسلو عام 1993، واتفاقية وادي عربة عام 1994.
ولم تكن كل تلك التطورات بعيدة عن الوضع في اليونان، حيث بدأت الساحة السياسة تشهد تحولات مهمة، وظهرت دعوات للتقارب مع إسرائيل، حيث تبنّى كلّ من تيار اليمين الوسط، وتيار اليسار الوسط، اللذين حكما المشهد السياسي اليوناني مؤخرًا منهجًا مختلفًا نحو إسرائيل، خصوصًا بعد دعوة نتنياهو عام 2010، كأول رئيس وزراء إسرائيلي، لإقامة صداقة مع أثينا. وانعكس ذلك بشكل جلي عند تولي أليكسيس تسيبراس وحزبه الاشتراكي للسلطة عام 2015، وكذا رئيس الوزراء اليميني، كيرياكوس ميتسوتاكيس بعام 2019.
ولفهم هذا التوافق بين التيارات اليونانية، لا بد من الوقوف أمام مصالح بلدهم التي يمكن اختصارها في حقيقة أن إسرائيل متقدمة تكنولوجيًّا وعسكريًّا. كما أنها مطلّة على البحر المتوسط الذي يزخر بثروات الطاقة كالغاز الطبيعي، حيث وقّعت الدول الأوروبية مذكرة تفاهم مع إسرائيل ومصر في يونيو 2022 لتأمين وارداتها من الغاز بهدف التخلص من الاعتماد على الغاز الروسي. ناهيك عن مكانة إسرائيل لدى واشنطن التي تزيد أهميتها لأثينا.
أما من ناحية إسرائيل، فإن مصلحتها تجاه اليونان تكمن في أنها إحدى البوابات لأوروبا، خصوصًا أنها يمكن أن تؤديَ دورًا مهمًّا في ملف الطاقة بحكم أنها مقبولة أوروبيًّا أكثر من تركيا. وهذا ما يُفسر الاهتمام الذي حظي به وزير الخارجية اليوناني، الذي زار إسرائيل في يناير الماضي حيث لم يلتقِ بنظيره فحسب، وإنما التقى بنتنياهو أيضًا، ليكون بذلك أول مسؤول أوروبي يزور إسرائيل منذ تشكيل الحكومة الحالية. ورغم أن التقاطعات في علاقات البلدين تتمثل بالانفتاح في العلاقات التركية- الإسرائيلية، فإن أثينا تتفهم الرؤية الإسرائيلية لأنقرة الرامية لتعزيز مصالحها الاقتصادية والأمنية معها.
وما يُطمئن اليونانيين هو تنامي علاقاتهم الاقتصادية مع تل أبيب، فوفقًا لمكتب الإحصاء الإسرائيلي، قفزت الصادرات الإسرائيلية لليونان من 442.6 مليون دولار خلال عام 2019 إلى 670.3 مليون دولار خلال عام 2022، بينما زادت الواردات من اليونان من 321.2 مليون دولار في عام 2019 إلى 587 مليون دولار في عام 2022. وفي المجال الدفاعي فإن الحدث الأبرز تمثل في ما كشفته وزارة الدفاع الإسرائيلية من إبرام اليونان اتفاقًا لشراء صواريخ «سبايك» الموجهة المضادة للدبابات بقيمة 403 ملايين دولار التي تصنعها شركة «رافائيل» للصناعات العسكرية الإسرائيلية.
ومن هنا فإن ما يمكن قوله في ظل الزخم الذي تشهده العلاقات الإسرائيلية اليونانية هو: أن المقاربة الإسرائيلية تجاه اليونان وتركيا قائمة على ما يمكن تسميته «باليوناتركياسي»، والذي تسعى عبره إلى الموازنة في انفتاحها وتعاونها معهما، مع التأكيد على خصوصية العلاقة مع كل من الدولتين من الناحية الأمنية والدفاعية.
باحث متخصص في الشؤون الإسرائيلية- مركز تريندز للبحوث والاستشارات.