قوة الرأسمالية الأميركية
يواصل نهر الميسيسبي العظيم الجريان. قد لا تفكر أبداً في ذاك النهر القوي والعريض إذا لم تكن تعيش بالقرب منه. وقد يرتبط في ذهنك بقصص الأديب مارك توين. ولكن النهر يواصل كل يوم الجريان على مدار اليوم وعلى مدار الأسبوع.
والواقع أن الرأسمالية تشبه ذلك. فأنت تستطيع اختراع قصص حول كيف أن أميركا باتت في حالة تراجع اقتصادي، وتستطيع مهاجمة «الليبرالية الجديدة». ولكن الرأسمالية الأميركية لا تكترث لذلك، وتواصل الجريان وحسب.
مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية نشرت مؤخراً تقريراً حول الأداء الاقتصادي الأميركي على مدى الثلاثة عقود الماضية. وباستعمال كم كبير من الأدلة والبيانات، تمثلت الفكرة الرئيسية للمقال في أنه بدلاً من أن تكون في حالة تراجع، فإن الرأسمالية الأميركية مهيمنة ومتسارعة.
ففي سنة 1990، على سبيل المثال، كان متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يعادل تقريباً نظيره في أوروبا واليابان. ولكن بحلول 2022، كانت الولايات المتحدة متقدمة عليهما.
وفي سنة 1990، كان الاقتصاد الأميركي يمثّل 40% من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لدول مجموعة السبعة. وبحلول 2022، كانت الولايات المتحدة تمثّل 58% منه.
وفي سنة 1990، كان دخل الفرد في أميركا أعلى بـ24% من دخل الفرد في أوروبا الغربية. واليوم، بات أعلى منه بنحو 30%.
أسباب هذه القوة عديدة. والحقيقة أنني ذهلتُ بحجم ما تستثمره أميركا في شعبها. ذلك أنها تنفق حوالي 37% أكثر على كل طالب في التعليم مقارنةً مع المعدل بالنسبة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تضم بلداناً غنية مماثلة في الغالب. و«تشات جي بي تي» ولقاحات الحمض النووي الريبي ليست المؤشرات الوحيدة على التفوق التقني الأميركي. ذلك أن الولايات المتحدة تمثّل 22 في المئة من براءات الاختراع المعمول بها في الخارج، وهو ما يمثّل ارتفاعاً من 19 في المئة في 2004. وهذا معدل أعلى من معدل أي دولة أخرى. ويُعد مستوى التعليم أحد أسباب زيادة إنتاجية العمال الأميركيين بـ67 في المئة بين 1990 و2022، مقارنة مع زيادة قدرها 55 في المئة في أوروبا و51 في المئة في اليابان.
وفضلاً عن ذلك، ما زالت الشركات الأميركية تخلق قيمة مذهلة. فوفقاً لـ«ذي إيكونوميست»، فإذا كنت في سنة 1990 قد استثمرتَ مبلغ 100 دولار في «إس آند بي 500»، وهو مؤشر للشركات الأميركية، فإنه سيكون لديك حوالي 2300 دولار اليوم. أما إذا كنت استثمرت تلك المئة درهم في مؤشر لأسهم بلدان غنية غير أميركية، فإنه سيكون لديك الآن حوالي 510 دولارات اليوم.
بالطبع، الصين ارتقت إلى وضع قوة عظمى خلال هذه السنوات، ولكن ذلك لم يحجب التفوق الأميركي. ففي عام 1990، كان الاقتصاد الأميركي يمثّل نحو 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وفي 2022، ما زال الاقتصاد الأميركي يمثّل حوالي 25 في المئة، وفقاً لـ«ذي إيكونوميست».
كما أن النهر المتدفق العظيم رفع أجيالاً جديدةً. فـ«جيل الألفية» (ممن ولدوا في الفترة ما بين 1981 و1996). و«جيل زِي» المولودون في أواخر التسعينيات، يتميزان بقصة صعوبات اقتصادية. ويعتقد كثير من الناس أن الأجيال المقبلة لن تتمتع بمستويات المعيشة نفسها التي تمتع بها آباؤهم.
وربما كان من الممكن سرد تلك القصة بدقة في أعقاب الأزمة المالية، ولكن مثلما تُظهر جان توينج في مقال جديد لها بمجلة «ذي أتلانتيك»، فإنه من غير الممكن حكي تلك القصة بدقة اليوم إذ كتبت تقول: «بحلول 2019، كانت الأُسر التي يقودها أبناء «جيل الألفية» تجني مالاً أكثر بكثير من تلك التي يرأسها أبناء «الجيل الصامت من مواليد منتصف العشرينيات إلى منتصف الأربعينيات» و«جيل طفرة الولادات» بعد الحرب العالمية الثانية (بداية خمسينيات القرن الماضي)، و«جيل إكس» (مواليد ستينيات القرن الماضي) في نفس العمر، بعد أخذ التضخم في عين الاعتبار».
ووفقاً لمكتب الإحصاء، فإن أبناء «جيل الألفية» كانت لديهم دخول أُسر أعلى بـ9 آلاف دولار من أُسر «جيل إكس» وأعلى بـ10 آلاف من أسر «جيل طفرة الولادات» في نفس العمر، بدولارات 2019.
لا أقصدُ بذلك أن الرأسمالية الأميركية مثاليةٌ وتتسم بالكمال، وإنما أقصد أن هناك توتراً بين الدينامية الأميركية والأمن الاقتصادي. ولأسباب لها جذور عميقة في ثقافتنا، كان النوع الأميركي من الرأسمالية يميل دائماً نحو الدينامية، مع أسواق أكثر حرية وأنظمة رعاية اجتماعية أصغر.
ولكن على مدى العقود العديدة الماضية، جرّب الأميركيون طرقاً لتوفير قدر أكبر من الأمن بدون كبح «التوربو» الرأسمالي الذي يحقق النمو والارتقاء الاجتماعي.
كان هذا هو المشروع العظيم ليسار الوسط ويمين الوسط. وقد كان ناجحاً وما زال كذلك.
فبين 1990 و2019، ارتفع الإنفاق الاجتماعي الأميركي من 14% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 18%. وبفضل دعم هذه الحكومة جزئياً، انخفض الفقر إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، وفقاً لمكتب الإحصاء.
في 2016، نشر توماس بيكيتي كتاباً أثار كثيراً من النقاش، بعنوان «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين»، حاجج فيه بأن اتساع التفاوت الاجتماعي سمةٌ أصيلةٌ في الرأسمالية المعاصرة. ولكن المشكلة هي أنه خلال الفترة نفسها التي نشر فيها كتابه تقريباً، توقف التفاوت الاجتماعي عن الاتساع، كما يلفت إلى ذلك الاقتصادي نوا سميث، ويبدو الآن أنه آخذ في التراجع قليلاً.
والواقع أن النموذج الأميركي من الرأسمالية يتعرض لهجوم من اليسار، الذي ينتقد فظاعات «الليبرالية الجديدة» و«العولمة»، ومن شعبويين من أمثال تاكر كارلسون، الذين يعاملون الرأسمالية الأميركية في كثير من الأحيان على أنها خيانة عظمى. غير أن هذا النموذج أثبتت أنه أعلى وأكثر تفوقاً من كل بدائل العالم الحقيقية.
والحقيقة أنني أشعرُ بنوع من الذهول. فقد عشنا فترة سياسية عصيبة. والنسيج الاجتماعي يتهلهل ويتآكل بألف طريقة. ومع ذلك، تُواصل الرأسمالية الأميركية الجريان.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2023/04/20/opinion/american-capitalism-good.html