تآكل الهوية
منذ أيام احتفلنا باليوم العالمي للغة العربية، ومع الندوات والمؤتمرات والمقالات التي كتبت على مدار هذا الاحتفال وقفت وتساءلت عن طبيعة العلاقة بين اللغة وبين الأمن الاجتماعي للمجتمع الإماراتي، وكيف يمكن أن تكون اللغة ميزان الحفاظ عليه والحفاظ على تماسك المجتمع ووجدت أن هذا الطرح لابد وأن ننتبه له ونفكر فيه بعمق أكثر لندرك أبعاده وندرك أننا على عتبة تحد كبير.
اللغة ليست مجرد تلك الإشارات والرموز المكتوبة والصوتية التي تعكس أفكارنا ونتواصل بها مع الآخرين. اللغة أعمق من ذلك فاللغة إطار نؤطر به كل التجارب الثقافية والمعرفية التي شكلت هوية المتحدثين بهذه اللغة لتصبح اللغة جزءاً من الثقافة والهوية للمجتمع.
اللغة كائن حي يولد ويعيش ويموت، فكم من اللغات القديمة ولدت وعاشت طويلاً، ثم صارت لغات ميتة لم يعد يوجد متحدثون أصليون بها، فهي ليست لغة فانية مآلها للعدم مثل الكثير من اللغات التي اختفت ولم يصلنا عنها شيء، تظل هذه اللغات الميتة متواجدة في المتاحف ومراجع التاريخ فقط مثل اللغة اليونانية القديمة واللغة المصرية القديمة والسؤال الآن: هو كيف تموت اللغة؟
كما أسلفت، فاللغة كائن حي يؤثر في موتها كثير من العوامل، ولكن يظل هذا الموت مرهوناً بأهم تلك العوامل وهو توقف أهل تلك اللغة عن استخدام لغتهم في حياتهم اليومية. يستتبع ذلك عوامل أخرى كتوقف استخدام لغتهم في منتجهم الثقافي والهوياتي، وسيادة لغات أخرى على مناهجهم التعليمية وخاصة في المراحل الأولى، وتولد مع ذلك التوقف عوامل أخرى متشابهة ومعقدة تؤدي في النهاية إلى نتيجة واحدة وهو موتها الحتمي.
هل اللغة العربية معرضة لهذا الموت؟ ستأتي الإجابة بدهة من الكثير من الناس أن اللغة العربية محفوظة بكونها لغة القرآن وربط اللغة بالمقدس الديني كونها أيضاً لغة الشعائر والطقوس الدينية الإسلامية يعتبر حامياً لها من الموت.. نعم ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبالمقدس الإسلامي حامياً لها من الفناء والعدم، لكنه ليس كافياً لحمايتها من الموت، فلم تغير اللغة العربية التي يقيم بها مسلمو الثقافات غير العربية من ثقافتهم بمفرداتها العميقة تاريخياً والكثير منهم يقرؤونها ويؤدون شعائر الدين من دون فهم ما يقولون.. لذلك لابد وأن نعي أنه حين تفقد اللغة زخمها في الحياة اليومية ستموت، ولكن هل فقدت اللغة العربية زخمها اليومي؟
بالتأكيد الإجابة على هذا السؤال هي (ليس بعد) ولكن اللغة العربية في طريقها إلى أن تفقد قوتها في الحياة اليومية بين الناس، والأكثر صعوبة هي أن تفقد دورها في التواصل بين الآباء والأبناء.. وهنا يبدأ خط الانهيار في الهوية وتآكلها التدريجي الذي يؤدي في لحظة من المستقبل إلى فقد الهوية تماماً وغيرها وتحول هويتنا الوطنية إلى صورة أخرى مغايرة لموروثنا وتراثنا الثقافي.
إن هذا المقال ما هو إلا نقطة ضوء ألقي بها على جانب مهم لا يلقي بالاً له الكثير من أفراد المجتمع، كي ندرك أن غياب لغتنا العربية عن حياتنا اليومية في البيوت والشارع والعمل هو انحسار لأثر قيمنا وموروثنا الأخلاقي وهويتنا الوطنية، وهذا سيؤدي لحدوث خلل ثقافي في المجتمع، وفي النهاية يؤدي إلى خلل في الأمن الاجتماعي، ولهذا ينبغي دوماً الحفاظ على زخم اللغة العربية التي تعزز المسيرة الحضارية ذات الطابع الخاص لدولة الإمارات العربية المتحدة.
*أستاذ زائر بجامعة الإمارات وأستاذ زائر بكلية التقنية العليا للطالبات بالعين.