ابن رشد الفقيه الأرسطي
كيف يمكن للفقه والفلسفة أن يجتمعا في شخص ابن رشد، الفقيه المالكي الذي أنفق عمره في قراءة كتب الفلسفة يديم النظر فيها بعيون نقدية فاحصة، ويفرد أرسطو بكثير من وقته، هذا الفيلسوف الذي ملك عليه حياته كلّها حتى أصبح يراه وكأنه تجسيد للكمال الإنساني محسوساً مشاراً إليه، كما قال؟ كيف يمكن لأرسطي خالص أن يُسمّى فقيها، فضلاً عن أن يُدّعى له أن يكون للفقه دور في تأسيس تجربته الفلسفية؟
وهل يُتَصوّر من فقيه قُحِّ يمتلك علوم الآلة وعلوم الشرع أن ينصرف عن الكتاب العزيز إلى كتب أرسطو يفسرها على الطريقة التي فُسِّر بها الكتاب العزيز في ثقافتنا الإسلامية، فيؤثر بذلك كتبا أعجمية على الكتاب العربي المبين؟
أما أن أبا الوليد ابن رشد كان فقيهاً ويحمل همّ الإصلاح الديني لمجتمعه، فذلك ما تنطق به سيرته ونصوصه القطعية في ثبوتها ودلالتها، وبخاصة «بداية المجتهد»، فضلاً عن أن الرجل أخذ الفقه وعلوم العربية عن أبيه، وعكف على قراءة كتب جده، وأجازه الفقيه الكبير المازري وهو لمّا يتجاوز الأربعة عشر ربيعاً. وولي في كبره «قضاء الجماعة» نائباً عن الإمام الأعظم.
إذن ليس غريباً أن يكون ابن رشد فقيها، إنما الغريب كيف أمكن لفقيه مالكي وأشعري، أن يمتلك أرسطو؟ إن امتلاك أرسطو حدث كبير في تاريخ الثّقافة العربية الإسلامية، لماّ تدرك أبعاده الكبرى بعد، وخاصة من رجل كان درّاكاً لمقاصد الشريعة، حفيّاً بأسرارها، محيطاً بكلياتها وجزئياتها، ها هنا مكمن الغرابة وهذا هو الذي يحتاج إلى فهم وتأويل.
أما التّشكيك في كتبه الفقهية، بل وأحياناً اتهامه بالتّقية، فهذه من بقايا الضلال الإيديولوجي، وابن رشد نفسه يقدّم أدوات فهم شخصيتيه في انسجام تام وفي قلب كتبه الفلسفية، بل في قلب أعظم شروحه على الإطلاق، وهو شرح ما بعد الطبيعة. حيث يتحدث ابن رشد عن مفهومه المفتاح: «الشريعة الخاصة بالحكماء» فيقول:«فإن الشريعة الخاصة بالحكماء هي الفحص عن جميع الموجودات، إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه».
يقدم ابن رشد في هذا النص الطريف سبب إقباله على قراءة نصوص أرسطو، إنّها النّصوص التي كانت في زمانه تفحص في الموجودات، سواء كانت موجودات متحركة، والتي احتفلت بها كتب أرسطو الطبيعية، أو كانت موجودات مفارقة بالقول، وهي التي تتعلق بعلوم التعاليم والتي احتفل رشد منها بكتاب «المجسطي» لبطليموس، أو كانت موجودات مفارقة بالقول والوجود، وهي الموجودات الميتافيزيقية التي أُفْردتْ لها مقالات كتاب ما بعد الطبيعة.
كان ابن رشد يعتقد، وهو يطوف في الكتب الفلسفية والعلمية التي أتاحها له عصره، وبخاصة كتب «المعلم الأول»، أنه لم يفارق محراب العبادة التي يفهمها كفقيه، وأن كتب أرسطو، وغيرها، تجعله أقرب من غيره إلى معرفة مدبر هذا الكون وصانعه، لأنه «كلما كانت المعرفة بالصّنعة أتم كانت المعرفة بالصانع أتم» وكتب أرسطو تقدم، في عصره، المعرفة بالصّنعة، لذلك عكف ابن رشد عليها واتخذها زلفى إلى ربه على قصد الامتثال والطاعة.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.