بعد انتخابات انتصر فيها «الحزب الديمقراطي الاشتراكي»، تبدأ ألمانيا مهمةَ تشكيل أول حكومة من دون أنجيلا ميركل منذ ما يقرب من 16 عاماً. وفي بريطانيا، عقد «حزب العمال» مؤتمراً قومياً قد يمثل تحولاً. ويحاول «الحزب الديمقراطي» الذي ينتمي إليه الرئيس الأميركي جو بايدن جاهداً الآن إفساح الطريق لإقرار نقاط محورية في قائمة أولوياته السياسية الداخلية.
كل تلك التطورات السياسية تلتقي في أمر مشترك مهم: إنها تكشف عن تحديين من التحديات المشتركة التي تواجه زعماء يسار الوسط على جانبي الأطلسي. وأول هذين التحديين هو كيفية المواءمة بين طموحاتهم للتغيير الاجتماعي والاقتصادي والبيئي وبين الممكن سياسياً. أما ثاني التحديين فيتعلق بحقيقة الاختبار والذي قد يتضح أنه أكثر مشقةً من المتوقع. ويتمثل الاختبار في حشد ما يكفي من الثقة الشعبية في الحكومة المركزية، أو البدء في إحياء هذه الثقة كما في حالة الولايات المتحدة. والمراهنات في هذا الخصوص عالية. فالرياح السياسية فيما يبدو تدفع الآن باتجاه هؤلاء الزعماء، وهذا يرجع في جانب منه إلى موجات الصدمات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19. ويتولى السياسيون الديمقراطيون الاشتراكيون السلطة في عدد متزايد من الدول الأوروبية، إلى جانب الديمقراطيين في واشنطن.
لكن لا ضامن لاستمرار ذلك الاتجاه، فالمناخ السياسي لا يزال غير مستقر. والرابطة بين الناخبين، وخاصة الأصغر سناً منهم، وبين الأحزاب السياسية من التيار الرئيسي ضَعُفت كثيراً عما كانت عليه من قبل. ودون حجر الأساس هذا المتمثل في الثقة، ليس فقط في الأحزاب بل في الحكومة نفسها، فإن تطبيق أي نوع من قائمة أولويات التغيير سيكون أكثر صعوبةً. وفي ألمانيا، مرتكز السياسة والاقتصاد للاتحاد الأوروبي، ستتبدى كل هذه العناصر في الأسابيع المقبلة من خلال المفاوضات لجمع ائتلاف جديد. وبشكل مفاجئ، خرج زعيم «الحزب الديمقراطي الاشتراكي»، أولاف شولتز، من انتخابات الشهر الماضي باعتباره المرشح الأوفر حظاً ليخلف المستشارة ميركل التي ستقوم بتسيير الأعمال إلى حين تولي حكومة جديدة زمام السلطة. فالحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي كان ذات يوم أحد الأحزاب التقدمية البارزة في أوروبا، واصل فقده للتأييد بلا توقف منذ بداية القرن الحالي. وانخفضت حصته من الناخبين إلى 20% تقريباً. لكن شولتز قدم نفسه باعتباره براجماتياً تقدمياً يستطيع تحقيق التغيير الاجتماعي والاقتصادي والبيئي المطلوب دون التضحية بالاستقرار السياسي الذي ألفه الألمان نتيجة بقاء ميركل لفترة طويلة في السلطة. وخاض شولتز السباق مدعوماً بحصيلته كوزير للمالية في ائتلاف ميركل السابق. ورغم فوز «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» بفارق طفيف، فإنه أضاف 5% إلى حصة أصوات ناخبيه. بينما تراجع التأييد لحزب ميركل من يمين الوسط بنسبة 9% تقريباً.
لكن الناخبين الأصغر سناً هجروا كلا الحزبين وانجذبوا إلى حزبين أصغر لكنهما ليبراليان اجتماعياً، ويحتاج إليهما شولتز الآن ليشكل حكومة. إنهما «حزب الخضر» و«حزب الديمقراطيين الأحرار». وهذا قد يعني مقايضات سياسية معقدة، لكن شولتز يرى أن التحدي الذي يواجهه كل شركاء الائتلاف المحتمل ربما يكون داعياً إلى الوحدة لإظهار أنه من الممكن تحقيق تغيير سياسي حقيقي، وتغيير جيلي أيضاً.
وبعبارة أخرى، تستطيع الحكومة التقدمية العمل وكسب الدعم الشعبي المطلوب لمعالجة القضايا الاجتماعية واستجابة أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي للمتطلبات البيئية والرقمية في عالم متغير. وهذا مسعى سيراقبه السياسيون الآخرون من يسار الوسط على امتداد أوروبا، لكن كير ستارمر، زعيم حزب العمال في بريطانيا، سيكون الأكثر اهتماماً بالقياس لباقي الزعماء الآخرين. فقبل عامين، حين خلف ستارمر الزعيم العمالي من أقصى اليسار، جيرمي كوربن، كان حزب العمال بعيداً عن السلطة منذ عقد. وكان الحزب قد عانى من أسوأ نتيجة انتخابية منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وما لم يدعُ رئيس الوزراء المحافظ بوريس جونسون إلى انتخابات مبكرة، فلن تُجرى انتخابات قبل أعوام وفرص فوز حزب العمال بها ما زالت ضئيلة.
صحيح أن المؤتمر السنوي لحزب العمال الذي عقد في الآونة الأخيرة شهد انتقادات شديدة من أنصار كوربن لستارمر، لكن ستارمز وجّه الحزب في اتجاه براجماتي ليسار الوسط أكثر توافقاً مع نهج شولتز وزعماء عماليين سابقين مثل توني بلير وجوردون براون، آخر زعيمين عماليين في السلطة. وفي ظل مقاطعته من المحتجين من الجناح اليساري، سأل ستارمر الحضور في المؤتمر قائلاً: أيجب أن نكون «هتافاً بالشعارات أم تغييراً للحياة؟»، ليصفق له الجمهور بشدة.
والسؤال مازال مطروحاً: كيف يمكننا في السياسة العملية أن «نغير الحياة»؟ هذا ما يخوض فيه الرئيس بايدن وأعضاء حزبه الديمقراطي في واشنطن الآن. إنهم يحاولون العثور على طريقة لإقرار مشروع قانون إنفاق على البنية التحتية وصفقة ميزانية تصالحية -يتطلب إقرارها توفر أغلبية أقل من الثلثين- تضم طائفة من البرامج البيئية والاقتصادية والاجتماعية. وأوضح عقبة يواجهها بايدن هو الحسابات الدقيقة في الكونجرس. فبايدن في حاجة لكل صوت من الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ليحقق النجاح. لكن تحديات بايدن الأطول أمداً يشترك فيها مع شولتز وستارمر، وهي إظهار قدرة الحكومة على الإنجاز والعمل.
وهناك اختلاف محوري واحد. صحيح أن ثمة انقسامات متنامية واستياء في معظم الديمقراطيات الغربية على مدار العقد الماضي، إلا أن الانقسامات أعمق في الولايات المتحدة. وقد قرأتُ كتاباً جديداً مهماً لإيفان أوسنوس، الكاتب في مجلة نيويوركر، وهو بعنوان «البراري: صناعة غضب أميركا». وهالتني بعض أرقام استطلاعات الرأي التي أشار إليها. ففي عام 1964، كان 77% من الأميركيين يقولون إنهم يثقون في حكومتهم. لكن بحلول عام 2014، بلغت هذه النسبة 18% فقط. وإذا استطاع بايدن وضع صفقة تشريعية وإقرارها في الكونجرس، رغم الصعوبات التي يواجهها، فربما يستطيع على الأقل تدشين شيء قد يكون أكثر أهمية وهو استعادة ثقة الأميركيين وتدعيم الرابطة بين الحكومة ومواطنيها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»