الدراما والتاريخ
شهدت الساحة المصرية في الأسبوعين الماضيين جدلاً مهماً حول حرية الإبداع في تناول التاريخ من خلال أعمال درامية، وكان موضوع الجدل تحديداً الدراما التلفزيونية، وإن كانت الفكرة ترد على تناول المبدعين للتاريخ، سواء في الدراما التلفزيونية أو الأفلام السينمائية، أو الروايات الأدبية، وغيرها. وقد تركز النقاش حول الآفاق التي يمكن أن يصل إليها الكاتب في معالجته للتاريخ، بما قد يخالف ما هو ثابت تاريخياً، سواء أكانت الحجة في ذلك هي تصحيح رواية تاريخية مغلوطة، أو الانتصار لوجهة نظر معينة في تفسير التاريخ، أو حتى تقديم رواية جديدة للوقائع التاريخية. وقد بدأ الجدل بمقالة للدكتورة نيفين مسعد في صفحة الرأي بجريدة «الشروق» المصرية في21 مايو الماضي، بعنوان «التلاعب بالتاريخ في القاهرة-كابول»، انتقدت فيها معالجة مسلسل «القاهرة-كابول» الذي عُرِض في رمضان الماضي لوقائع تاريخية معينة، فضلاً عن انتقادات أخرى لا تدخل في صلب الهدف من كتابة هذه المقالة. وكان أهم ما ورد من انتقادات في هذا الصدد أن المؤلف قد أورد واقعة إعلان دولة الخلافة الإسلامية من على منبر مسجد النوري في الموصل، باعتبارها قد وقعت في 2010، خلافاً لوقائع التاريخ القريب التي تشير لإعلانها في 2014 وليس في التاريخ الذي أورده المسلسل. كما كانت هناك تفاصيل أخرى مختَلَف عليها يمكن التذرع في عدم دقتها بالحبكة الدرامية أو الرغبة في تقديم سردية أخرى للتاريخ، مثل أن «الخليفة» قد انتقل من مقر قيادته لتنظيم «القاعدة» في كابول إلى العراق لإعلان دولة الخلافة، مع ما هو معروف من تمايز واختلاف بين «القاعدة» و«داعش»، ناهيك عن أنه كان في المسلسل إرهابي مصري بما يجافي الوقائع. وقد ركّزت الكاتبة على ما يمثله هذا من تلاعب بوقائع التاريخ القريب الثابتة، ناهيك عما تسببه هذه المجافاة للتاريخ من انفصال شعوري بين المشاهد والعمل الدرامي لتيقّنه من زيف روايته. ومن الواضح أن المقالة قد أثارت ردود فعل متباينة، بدليل نشر الكاتبة مقالةً ثانيةً في 2021/5/28 بعنوان «العلاقة بين الإبداع والتاريخ»، عرضت فيها لاتجاهين ظهرَا كرد فعل لمقالتها، أولهما يذهب إلى إطلاق حرية المبدع دون قيود حتى من الوقائع التاريخية، محتمياً بما يسبق عرض الحلقات من أن «جميع شخصيات هذا العمل الفني من خيال المؤلف وأي تشابه بينها وبين الواقع هو محض مصادفة»، بينما ذهب الاتجاه الثاني إلى أن ثمة حدوداً لتلك الحرية، وأن الخط الأحمر الذي يجب ألا تتجاوزه هو الوقائع الثابتة.
وليس التاريخ بحاجة إلى كتّاب الدراما أو غيرهم لتشويهه، فتحريفه مألوف عبر العصور من طرف البعض لأسباب سياسية أو ذاتية، وثمة فارق هائل بين الاختلاف حول دقة واقعة تاريخية أو تفسيرها، وبين ما حدث كثيراً عبر العصور من طمس لحقائق تاريخية بأكملها أو تقديم تفسيرات مغلوطة لها. والواقع أن الأعمال الأدبية والدرامية وغيرها يمكن أن تجتهد في تقديم رؤى مغايرة لما هو شائع، كالاجتهاد في تفسير أسباب قرار أدى لتداعيات هائلة أو تفكك دولة ما أو حل لغز اغتيال زعيم سياسي شهير، وحتى ما ورد بالمسلسل الذي دار الجدل حوله من تفسير للعلاقة بين التنظيمات الإرهابية والقوى الدولية التي توظفها، يمكن قبوله كاجتهاد، طالما أنه لا توجد حقائق ثابتة حول الموضوع. أما تغيير زمن الوقائع، فهو يصب مباشرة في تزييف التاريخ، والخطورة أن مشاهدي الأعمال الدرامية والسينمائية وغيرها لا يتوفر فيهم بالضرورة الوعي المطلوب للتمييز بين الحقيقة والزيف فيما يشاهدونه، وهو ما يهدد بتزييف وعي قطاعات من الرأي العام في قضايا بالغة الأهمية.
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة