يعتبر «الأمس»، وما يمثله من تراث وتاريخ من المصفوفات الإنسانية الثمينة والمقدرة، والتي لا يزال تتكئ عليها الأجيال في الاستلهام من خبراتها، لبناء حضارتهم، ومنظومة ثقافتهم الجديدة، والتي تضرب بجذورها في أعماق ذلك «الأمس».
وفي ذات الوقت فإن الحديث بلغة الزمن بين الحاضر والمستقبل، يفضي للاعتراف بأن «اليوم»، و«غداً»، ما هو إلا جزء رئيس في حتمية التفاعل والانخراط مع جل المسارات العالمية لا من باب الكماليات، والبزخ، بل كاندماج إيجابي، ومشاركة فاعلة في المسارات العالمية الملتحمة والنظم الحديثة ومتعلقاتها، التي من شأنها كسر الحواجز وتعدي العقبات لإحداث انبثاق سلس للنموذج الثقافي المنشود «الأصيل المتجدد»، من خلال «بارادغما» ثقافية حيوية، أو نموذج يراعي قوانين الطبيعة، ويعي حيثيات البيئة الاجتماعية، ولا يعترف بانفراد، أو انعزال إلا كمدخل للهلاك والفناء سواء أكان ذلك في الثقافة الجديدة، أو سواها من المجالات والعلوم.
فمن خلال وعي العالم بضرورة العودة ل «براديغم الإنسانية»، كما دعا الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (إدغار موران) في كتابه الذي يتحدث عن السياسة الحضارية يكون المنتظر والمحتوم، بأن يبزغ للعالم نماذج وليدة تتفرع من كل حدب وصوب، وتتفوق على قالبها القديم، ممثلةً الحلة الجديدة المؤهلة للاعتماد وفق أساسات النظام العالمي الجديد، والتي لم تستثنِ «حملة تحديثاتها»، أياً من أصول أو فروع الحياة المادية والحسية للبشرية.
وعند تسليط الضوء تحديداً على المشهد الثقافي، فإن أساساته المتجذرة والضاربة في العمق منذ عصر الأنوار، لم تمنع من الوتيرة العَجِلَة المولدة بتحولاتها نقاط مركزية تتكاتف وتتناغم، لتنتج صورة للنموذج الثقافي الأكثر تحديثاً، أو «البارادغما» الثقافية والفكرية المتناغمة وشروط النظام العالمي الجديد من خلال ما تضمنه باعتبارها خليطاً دقيقاً من القوانين والفرضيات والنظريات العلمية، إضافةً لما تضمه في عصبها من المبادئ الميتافيزيقية، ومصفوفة من التعليمات الديالكتيكية والمنهجية التي توجه العمل العلمي، وهي ناظم تتوج بـ«جرعة إتقان» من خلال توفير التقنيات اللازمة لتطوير النظريات العلمية، وبخاصة أن «الباراديغم» لا ينفصل في فحواه عن مفاهيم التغير والثورات التي تؤول لتغييره.
وفي السياق ذاته فإن التحول الحاصل على «الباراديغم» بذاته، يرتبط كل الارتباط بالمنظومة الثقافية التي تعيش لحظات «المخاض» الآن. في السياق العام للنظام العالمي الجديد، فإن التغيير القادم، سيجلب معه أدوات التجديد في المعارف الأساسية، و«فارشاً» على سطحها الثورة الشاملة في المفاهيم. كما تتناسق «البارادغما الثقافية الجديدة» و«شروط القبول» في النظام العالمي الجديد من خلال ما تمتاز به باعتبارها «صاحبة سبق»، من الطراز الأول، ومرنة قابلة للتطويع والنجاح إزاء ما يعترض طريقها من تحديات مستحدثة.
وعليه فإن السعي للمس ملامح باراديغم المنظومة الثقافية الجديدة، هو انسجام وتواؤم مع الواقع وضروراته دائمة التطور والتغير للوصول لقمة «الكفاءة» في استيعاب اليوم والقدرة على إجابة تساؤلاته والإصغاء لندائه، وبصورة ملائمة، لذلك يقول كارل ماركس في نقده لتصور الفيلسوف هيغل للعالم: «إن امتلاك تصور معين للعالم، هو تكوين صورة للعالم، ومعرفته، وتكوين صورة للذات ومعرفتها، كل تصور للعالم يتميز بميل نحو اعتبار نفسه الحقيقة الأخيرة في هذا الكون، في حين أنها ليست سوى اسم نطلقه على الأشياء. وكل وعي فوقي يستدعي تصوراً للعالم. كل وعي بالأسباب والنوايا هو تصور (قيد التكون) للعالم. كل تقدم في المعرفة وفي التجربة هو خطوة في تقديم تصور العالم، يتحول يغير نفسه بنفسه، يغير ما في نفسه بنفسه».
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة