«كل ما أتمناه لو كان العالَمَ ضِعفَ حجمه مرتين، وأن يكون نصفه غير مستكشف بعد». قال ذلك من قضّى ثلاثة أرباع قرن من عمره يستكشف العالم، ويؤلف عما رأى كتباً وأفلاماً وبرامج تلفزيونية في حجم مكتبة كاملة متعددة الوسائط. قضى «ديفيد أتنبورو»، عالم التاريخ الطبيعي، أكثر من أي إنسان آخر في تاريخ العالم معظم حياته في رفقة الطيور والحيوانات في البحار على سواحل المحيط الهادئ، وغابات الأمازون، وفنزويلا، وذرى جبال أميركا الجنوبية، وسفوح جبال سيبيريا الجليدية.. يراقب الكائنات الحية ويصوِّرها عن قرب داخل أعشاشها، وفي أعالي الأشجار، ويلجُ أوكارها العميقة في باطن الأرض وأغوار الكهوف وأعماق البحار، أو يحلق في منطاد إلى أعلى ارتفاع يمكن أن توجد فيه حياة، ليتابع من الفضاء حشود الفيلة، وأسراب الوعول، تهرول وفي إثرها النمور المفترسة، أو تحلِّق كاميرته مع طيور الفردوس الساحرة الجمال، ترفرف بأجنحتها الزاهية بشكل يكتم الأنفاس.
وفي حديث معه منشور عام 1992 أجاب على سؤالين وضعهما أطفال عائلتي، و«أتنبورو» أَحَب العلماء إلى أطفال العالم، السؤال الأول: إذا حلّت كارثة بالأرض وتُركت لك فرصة البقاء مع عشرة حيوانات فأيّها تختار؟ قال أتنبورو: «أختار الدجاجة والكلب والطائر الطنّان وسمك السلمون والعندليب والنحل والطاووس والحصان والفراشة والغوريلا». ولا يمثل تسلسل ذكر هذه الحيوانات أي أفضلية بالنسبة لأتنبورو، إلا أن من المشاهد التي لا تنسى في أفلامه عن الطبيعة فيلمه التلفزيوني عن الحياة مع الغوريلا، الذي يقول عنه إنه يعيش حياة عائلية مثل البشر، ويُعمّر مثلهم.
وعاشق الطبيعة ليس هناك فيما يعشقه غريب أو قبيح. شيء آخر وراء القيم الجمالية يبهر بصره ولبه عند مشهد لحظة ميلاد الكنغر، هذا الحيوان الضخم الغريب الشكل والحركات والذي يتدلى جرابه الذي يحمل فيه مولوده الصغير، يولد على شكل دودة بالغة الضآلة حمراء الجلد عمياء دون أذنين، وما أن ينزلق من رحم أمه حتى يزحف بعزم السّباح يدير رأسه من جانب لآخر متمسكاً بشعر أمه ومهتدياً بحاسة الشمّ فقط إلى الثدي مباشرة، ثمان بوصات من الزحف الأعمى فرصته للبقاء حتى يلتقم ثدي أمه، ولا يستطيع أن يحرر فكيه إلاّ بعد شهر عندما يكبر فمه بما يكفي للتمطق بطعم الحليب، آنذاك يستطيع أن يتطلع وهو محمول في كيس أمه إلى العالم المحيط الذي لن ينزل إليه أول مرة قبل تسعة شهور، وهو نزول مؤقت للفرجة فحسب، إذ لن يُفطم الكنغر عن الرضاعة إلا بعد مرور 18 شهراً.
ويربو عدد كتب أتنبورو ومسلسلاته وأفلامه على الأربعين، وهو يأسى لمصير الحيوانات والأجيال القادمة من لبشر. «والمسألة هي هل يسعدنا أن لا يرى أحفادنا الفيل قطّ إلا صوراً في الكتب؟». ويفجعني تغيّر رأيه عن وضع الطبيعة والبيئة العالمية، منذ أجريت معه حديثاً منشوراً في أكتوبر عام 1992 عندما قال لي إنه يمقت ندب الطبيعة، وها هو على مشارف المائة من عمره يستعطف زعماء الدول في كلمته أخيراً في جلسة مجلس الأمن حول المناخ العالمي: «أرجوكم لا تخطئوا التقدير، فالتغير المناخي أخطر تهديد للأمن واجهه البشر المعاصرون».
ويُدهش موقف أتنبوروا من السيارة، وهو الحائز أرفع ألقاب النبالة البريطانية (سير)، حيث قال: «أنا لا أملك سيارة ولم أملكها قط، ويمكنني القول إنني أحب هذا الوعي البيئي الرقيق للغاية، لكن الحقيقة أني أكره السياقة»! ومهما تشاءمنا، وأسباب التشاؤم السياسية والبيئية كثيرة، فمأثرة ومثال أتنبورو يلهمنا الحكمة والشجاعة، ذلك لأن إبداعاته ما كان يمكن أن تتحقق لولا التكنولوجيات الذكية التي تتغلغل عميقاً، والفرق الشجاعة التي يغامر أفرادها بحياتهم في مجاهيل الطبيعة كي يجعلونا نرى من عالمنا ما لم تشهده كل الأجيال قبلنا.
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا