ليبيا.. الأُحجية
هل استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي السائدة في شمال أفريقيا وغربها، نتيجة ما يمكن تعريفه بغياب التوافق أو الإرادة الدولية، المقرون بغياب قوة إقليمية قادرة على الاضطلاع بدور الدولة المركزية؟ أم أنها تفعيل لمبدأ الاستنزاف المتبادل، الذي اعتُمد من الجميع في ملفي سوريا والعراق؟ الحالة الليبية وتأثيراتها على استقرار جوارها الإقليمي، الأفريقي والمتوسطي، تُعد أحد أهم أمثلة اعتماد ذلك المبدأ. ويُعد تنامي التناغم السياسي بين موسكو وأنقرة في هذا الملف، خارج إطار رؤية قمة برلين حول ليبيا، تأكيداً لغياب إرادة دولية حقيقية نتيجة لتضارب المصالح لا تقاطعها.
قرار الاتحاد الأوروبي إطلاق برنامج الرقابة البحري للسواحل الليبية، والمعروف بعملية (إيرني)، يُعد أحد نماذج الانخراط الفاعل من جانب أوروبا في تأمين حوض المتوسط، فمنذ انطلاقها مطلع أبريل الماضي، نفذت القوة البحرية الأوروبية أكثر من خمسين عملية اعتراض قبالة السواحل الليبية، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن رقم 2292، كان آخرها اعتراض الفرقاطة الفرنسية «جان بارت» لناقلة نفط مسجلة في الجابون تحت اسم (جال لاكسمي)، والتي كانت تعتزم تحميل شحنة من النفط الليبي بشكل غير مشروع. وبحسب مصادر دبلوماسية فرنسية وألمانية في الأمم المتحدة، فإن منع بيع النفط الليبي ليس الأولوية العليا لعملية «إيرني»، بل منع وصول السلاح وكذلك الاتجار بالأشخاص عبر عمليات زوارق الموت في المتوسط. إلا أن صعود الحضور التركي والروسي في المشهد الليبي يضيف الكثير من التعقيد لهذا الملف، عدا عن الأجندة الخاصة لتركيا وحلفائها، باستهداف الاستقرار السياسي في عموم شمال أفريقيا وغربها، انطلاقاً من ليبيا وتونس.
الحضور الروسي في ملف ليبيا لا يمثل طموحاتها السياسية فحسب، بل تكاملها الاستراتيجي مع الصين في عموم حوض المتوسط وشمال ووسط أفريقيا. لذلك تحاول موسكو التناغم مع أنقرة قدر الإمكان، رغم التباين في ملفات أخرى مثل سوريا.
روسيا ترى في عملية «إيرني» بعداً سياسياً قادراً على إذابة التباينات الأوروبية في أكثر من ملف متوسطي، بل إن التوافق الأوروبي-الأميركي في جزئية الحد من تنامي الحضور الروسي-الصيني في المتوسط يعد التطور الأهم لمآلاته الاستراتيجية، وتأكيداً لذلك اعتراض واشنطن الشديد على منح إسرائيل تسهيلات للصين في أهم موانئها المطلة على المتوسط، وذلك ما ناقشه الوزير بومبيو مع نتنياهو في زيارته الأخيرة لإسرائيل.
تقويض جهود المجتمع الدولي، عبر ما اتُّفق عليه في مؤتمر برلين بشأن ليبيا، يستلزم تطوير آليات أكثر استحثاثاً للاستقرار، ليس في ليبيا فقط، إنما عموم شمال وغرب أفريقيا. ويؤكد تنامي العمليات التي تنفذها جماعة «بوكو حرام»، أو التنظيمات الإرهابية المتماهية معها، خطورة ذلك إقليمياً ودولياً.
غياب الحسم لصالح أحد الأطراف في ليبيا، حفّز على تحويل حربها الأهلية لثاني أكبر مسارح الحروب بالوكالة بعد سوريا، وقدم الفراغ الناتج عن مجابهة انتشار وباء كوفيدـ19 فرصة ذهبية لكل من الفرقاء (روسيا وتركيا) للتصعيد بشكل غير مسبوق في ليبيا تحديداً. ربما توجب الآن على الجيش الوطني الليبي ترحيل المسارات السياسية التي لطالما عرقلت عملية الحسم المطلوبة ليبياً، والتركيز على الجهد العسكري لأنه المخرج والخيار الأوحد، إنْ أراد تفادي تكرار النموذج السوري.
*كاتب بحريني