عندما يتأنسن الموت
يقف أمل دنقل في ديوانه الأخير، مع الموت في مواجهة حاسمة ونهائية، مما يدفعه الى استبطان الذات والوجود إلى الإنغمار في الأعماق الجوانيّة لمسيرة الكائن على هذه الأرض· هنا يحتل الداخل مساحة أكبر من الخارج، إذا صحّت هذه الثنائيّة، وهي ربما صحيحة في تناول نتاجات شعريّة وابداعيّة بعينها وليست بإطلاق·
في سياق أنسنة الطبيعة، يتأنسن الموت ويفقد خشيته ورعبه الميتافيزقيّين، ويضحى كائناً أليفا طبيعيّاً، وكأنما الإرث الفرعوني الموغل في ازدراء الحياة العابرة، يمارس سطوته بشكلٍ لا واعٍ، على الشاعر، لكن من غير ذلك البعد الإيماني البديل، الذي يجعله مشدوداً إلى ''بين الحق والخلود والأبديّة''·
أمل دنقل الذي دفع بالعبارة الشعريّة العربيّة ذات الهاجس التاريخي والميثولوجي، إلى مشارف جديدة، ولم تغره تلك التهويمات اللفظيّة التي أخذت في الانتشار، والتي تتوسل الإدهاش البراني وما يحتويه من فقرٍ روحي ودلالي··
أمل دنقل بمنحى ما تقدم، وغيره بالطبع، شاعر بالغ الثراء والموهبة، رغم اختلاف الرؤى والخيارات، لكنه ''ليس العبقريّة التي نحتاج إلى ألف عام من الآن، إلى مسافة تماما كالتي كانت بين المتنبي ودنقل، سنظل ننتظرها'' كما عبر كاتب كبير، إلا إذا اعتبرنا ذلك نوعاً من المبالغات التي تنتشر هذه الأيام بصورة أكبر ولا نستطيع التفريق بين هَزَلها وجدّها·
أمل دنقل ليس ضمن هذا التقييم الطريف، وليس هو ''الذي فقد الشعر المصري بغيابه ـ أمله في تطور الخطوة التالية لصلاح عبدالصبور تطورا حاسما'' كما عبّر شاعر كبير أيضا· الشعريّة المصريّة ما تفتأ تتناسل أجيالاً وأساليب وطرائق تعبير·
أخيرا ونحن نحتفي بالذكرى الخامسة والعشرين لأمل دنقل، في هذه اللحظة المفصليّة، التي توغل فيها الحضارة في مهاوٍ بربريّة تكنولوجيّة حديثة، يحسن أن نذكّر بمقولة الفرنسي ذي الأصل الروماني (سيوران) بأن (هتلر) و(استالين) ـ مع الاحتفاظ بالفروق ـ ليسا إلا أطفالاً في جوقة موسيقيّة، بالنسبة للقرن الذي نعيش بداياته البشعة، وقد أطبق طغاته وجهلته على رقَبَة العالم والكون·
أما عربيّا، فقد وصل الوضع إلى ما هو عليه، إلى آخر الشوط، في تغذية جلاديه وقَتلته، بالمال والدم واللحم الحي، كي يكون لقمة سائغة، من غير أبسط غصة في فم القاتل والجلاّد· ابتلاع الفريسة بسلاسة بالغة، وهو ما لم يعرف له التاريخ مثيلاً حتى في أقصى العهود عبوديّة وانحطاطاً·
هل نردد ما كتبه (دانتي) على باب جحيمه ''اخلعوا كل رجاء فأنتم على أبواب الجحيم؟'' لكننا في قلب الجحيم حقاً، في قلب الربع الخالي، حيث يضيع الدليل، ولا يتبقىّ من القافلة إلا كلبها الجريح، ينبح في عَتْم الأبديّة·
ربما من هناك يبزغ معنى مختلفاً للوجود·
اشارة: الكاتب الكبير هو الراحل يوسف إدريس والشاعر الكبير هو الصديق سعدي يوسف·